يعتبر الأديب الروسي ، الأوكراني المولد، نيقولاي غوغول المؤسس الفعلي للعصر الذهبي للأدب الواقعي الروسي. ولد غوغول في 31 آذار عام 1809 وكان االإبن البكر لوالديه وقد اصرّ جدّه من ناحية والده على ان نيكولاي هو سليل عائلة (غوغول) القوزاقية النبيلة، وقد تأثر بوفاة شقيقه الأصغر ،ايفان، حين كان في العاشرة من عمره ،ودفعته الحادثة لايجاد صديق بديل. أثناء متابعته الدراسة الثانوية بين عامي ( 1821 – 1828 ) وظلّ يكتب لمجلة المدرسة الأدبية كما شارك في انتاج أعمال مسرحية داخل المدرسة، وبعد حصوله على شهادة تؤهله للانتساب الى الصف الرابع عشر انتقل الى مدينة (سان بطرسبرغ) في عام 1829 لتدريس مادة التاريخ حيث نشر حينها قصيدته الملحمية ( هانز كويشيلغارتن) متأثراً بقراءته
للأدب الرومانسي الألماني.
صمّم (غوغول) على ان يحقق لنفسه نجاحاً في المجال الأدبي، وعلى غرار جدّه من جهة والده جعل من حياة القوزاق
البسيطة والاعجاب والافتخار بهم سمة خاصة لأعماله.شغله الصراع المحتدم بين التوجه نحو اتباع العادات والثقافة الغربية وبين التمسك بتقاليد والثقافة السلافية كما وصلت اليه عن طريق الجيل الروسي القديم مثلما فعلت والدته حين كانت تتلو عليه القصص والحكايا فتمدّه بمخزون كبير من الخيال الشعبي الذي ترك تأثيراً بارزاً على نشاطه الابداعي. لقد التقى غوغول بالشاعر الروسي الكبير ( الكسندر بوشكين) عام 1831 والذي ترك تأثيره عليه حتى وفاته عام 1837 . وبعد فشله بالاحتفاظ بمركز (مساعد محاضر) في مادة (تاريخ العالم) في جامعة سان بطرسبورغ. تفرغ (غوغول) الى الكتابة بشكل نهائي ونشر على اثرها مجموعة من القصص القصيرة ، من بينها قصته ( تاراس بولبا ) وقصص تهكمية اخرى، ثم تبعتها بين عامي ( 1835 – 1841 ) قصص مرحلة ( سان بطرسبرغ) ومن بينها قصته الساخرة (الأنف) عام ( 1835 ) والتي تم تحويلها الى اوبرا ، وبعدها كتب ( مذكرات رجل مجنون ) ثم قصة ( المعطف ) التي تدور أحداثها في ( سان بطرسبورغ) واعتبرت واحدة من أعظم القصص القصيرة، وتبعها في عام ( 1936 ) قصة ( المفتش العام ) التي تتناول وتدين بسخرية موظفي ومسؤولي الدولة مما اضطره للهرب الى روما والبقاء فيها مدة ( 12 ) عاما.
تم نشر روايته ( نفوس ميتة ) عام ( 1842 ) التي تنتقد بحدّة، عن طريق التهكم والسخرية ، نظام القنانة العبودي الذي كان سائداً في روسيا ويعتبرها النقاد الرواية العصرية الروسية الأولى التي تدعو الى الاصلاح وتحرير الأقنان، ولكن قبل عودته الى روسيا بسنوات قليلة اثارت مراسلاته مع أصدقائه في عام ( 1847 ) خيبة امل الرادكاليين الروس لما تضمنته من محاباة للنظام القيصري الأوتوقراطي وطريقة الحياة الأبوية في المجتمع الروسي ، اذ ان هؤلاء كانوا يتوقعون منه ان يوسع حدة نقده الاجتماعي. بالنسبة ل(غوغول) العبودية موجودة في الكتاب المقدس بشكل شرعي ولا لزوم لالغائها، كان يقول :” لماذا تلوم المرآة اذا كان وجهك نفسه منحرفاً” لقد جلبت عليه هذه المواقف غضب واستياء أغلب الفئات السياسية.
امتلك غوغول موهبة فريدة للابداع الخيالي ، لصياغة وتكوين شخصيات فريدة وتصويرها بشكل ساخر وقد ترك تأثيراً كبيراً على الجيل اللاحق من الادباء الروس بمن فيهم (دوستويفسكي) ولكن اسيئ فهمه كثيرا في بعض الأحيان مما جعله يتأثر بدوره بسوء الفهم هذا، لاسيما وانه كان مرهف الحس كثيراً وقضى حياته معذباً بقضايا الأخلاق والدين، ومع تقدمه في العمر وتوسع الانتقاد لكتاباته من قبل اقرانه أخذت روحه تجف بسرعة مما دفعه نحو التدين، وقام بزيارة الأماكن المقدسة في القدس عام 1848.
وبعد عودته وقع تحت تأثير القسيس المتعصب الأب (كونستانتينوفسكي) الذي اوهمه بالخضوع لنظام من الصيام القاسي ادى الى وفاته في الرابع من آذار عام 1852 ، ودفن في موسكو.
حول قصة (المعطف)
ما يميز هذه القصة هو خلوّها من الأحداث، الحدث الرئيسي فيها هو توق (أكاكي أكاكافيش)، الشخصية الرئيسية فيها، للحصول على معطف. (أكاكي) شخصية بسيطة جداً، لا أبعاد لها ، بل ان البعد الوحيد الذي يميزه عن بقية الناس هو البساطة المطلقة، والقناعة كما تمليها الرغبات المحدودة والطموح التافه.
يعتبر (أكاكي) النموذج الأصلي ، الخامة الأولية للرواية التي يمثل بطلها مجرد شخص عادي جرّده النظام الاجتماعي من كل قيمة ، والعاجز عن التصدي لأي شيء، عن القيام بأي جهد لمواجهة اي شخص ، (أكاكي ) لا قدرة له على التحدي والتعبير عن ذاته، حتى يمكن القول انه صار قشّة في مهب الريح الاجتماعية الفاسدة او الموبوءة بمرض الحرمان ومشتقاته النفسية. انه اللابطل الذي يحتل الشخصية المركزية في قصة غوغول (المعطف)، وهي شخصية تفتقر الى اي صفة من الصفات البطولية المعهودة في سياق الروايات والقصص، غير أن ما يضعه في موقع يحتل فيه دور الشخصية المركزية في قصة المعطف هو الإحساس الدفين في قرارة نفسه انه يجب ان يعيش في مجتمع عادل انساني هذا الإ حساس الذي سيكتوي بناره فيما بعد ويقوده الى جرأة التطاول على السلم الإجتماعي والمطالبة بالتغيير و السعي الى اتخاذ خطوة متقدمة في حياته تهدف الى ترقيع واصلاح معطفه البالي ، وهو وضع استغلّه الخياط لجرّه الى حيازة معطف جديد توهم(أكاكي) انه حين سيرتديه سيكون مساويا لبقية العاملين داخل المديرية ، فقانون القيم الإجتماعية الزائف يتجلى عبر المملرسة اليومية للناس والتي سيبنون من خلالها علاقاتهم التي تؤكد ان المساواة والتفاوت بينهم تقرره انواع الألبسة. اذ قبل كتابة (المعطف)، تمسكت الرواية الأدبية بنماذج من أبطال يتمتعون بمواصفات ومقاييس نمطية معهودة وتقليدية من حيث منشئهم الطبقي أو الإجتماعي وقدراتهم العضلية والعقلية او المعرفية التي ستميز هؤلاء الأبطال عن بقية الناس فينفردون بقدراتهم وصفاتهم ومن المؤكد ان (أكاكي) ، هذا الشخص العادي الذي لا تتوفر فيه اية مزايا استثنائية ، والعديم المواهب هو الذي دفع (غوغول) ليجعله يحتل المركز الرئيسي ، لأن فقدانه لاية مواصفات ومزايا استثنائية بالمقاييس التقليدية الشائعة هو الشرط الكافي والوحيد الذي يؤهله للعب دور الشخصية الرئيسية ، انه شخص يعيش على الهامش برتابة وتكرار ممّل يفقران ما تبقى من حياته التافهة، انه لا يمتلك ادنى ميزة تجعل منه انساناً سويا وهذا كاف بحد ذاته ليحوله (غوغول) الى بطل غير عادي، ان قيمته كبطل بدأت مع رغبته واندفاعه الخجول لكي يتغير ويصير انساناً، ليصبح انسانا مثل بقية الناس، لقد استبدت به الجرأة للافصاح عن رغبته الدفينة وطموحه في ان يعامله الناس كما يتعاملون مع بقية أقرانه من بني البشر.
أحداث القصة بسيطة للغاية فهي تدور حول موظف، لا مواهب له، يؤدي واجبه اليومي في دائرة حكومية تابعة لاحدى الوزارات في مدينة (سان بطرسبرغ) وينهمك بنسخ الوثائق يدويا كل يوم(أجهزة النسخ لم تكن موجودة بعد) . لقد كان (أكاكي) أصلعاً، مجدوراً، ضعيف النظر، وكان ايضاً محطّة في دائرة عمله لتلقي واستقبال كل أصناف السخرية ، القاسية غالباً، والتي كانت تنهال عليه من كل صوب يوجهها اليه زملاؤه العاملين معه داخل تلك الدائرة. يكتشف (أكاكي) في أحد الأيام ان معطفه البالي الرث والمثير للشفقة لم يعد قادراً على حمايته من لسع الريح الباردة في الشتاء. أخبره الخياط الذي ذهب ليستشيره عن وضع معطفه المستقبلي، وكله رجاء وأمل في ان يتمكن ( بيتروفيش) الخياط الشرير من اصلاحه ، غير ان رد الخياط كان بالنفي القاطع ، لقد انتهت حياة هذا الرداء البائس وانقضى عمره المديد وما على (أكاكي) سوى حلّ واحد وحيد وهو ان يفصّل معطفاً جديدا يحميه من البرد وتهكم الزملاء. ويتطلب انجاح هذا المشروع الذي يقع خارج دائرة الإمكانيات المادية المتواضعة الشحيحة التي بحوزته لبذل جهودا مضنية وتقديم تضحيات كبيرة في سبيل اقتناء المعطف الذي صار يعني بالنسبة له ليس الردّ على البرد القارص فحسب بل ردّ الاعتبار ل(أكاكي) أي استعادة كرامته المفقودة والاعتراف به كشخص ، كانسان. غير ان هذا الشعور بالمساواة الذي أحسسه بالسعادة القصوى لم يدوم سوى يوم واحد فقط، اذ بينما كان يعبر احد الأماكن المقفرة في ليل بارد هاجمه لصّان ورموه ارضاً وسرقوا معطفه، نعم سرقوا حلمه الوحيد. وفي اليوم التالي وصل الى دائرة العمل منقوعاً بماء المطر ومتجلداً من شدة البرد ليتلقاه رئيس المكتب بالتوبيخ والتأنيب القاسي . وسرعان ما تصيبه حمّى شديدة وينتابه هذيان لتنتهي حياته الهزيلة.
من الصعب ان يجد المرء سطراً واحدا مثيراً للنفس في سلسلة الأحداث القليلة التي تسردها القصة، ومع ذلك فقد ايقظت هذة الحكاية البسيطة رؤوساً عديدة فانهمكت أفكارها تعربد وهي سكرى لاكتشاف مغزاها معانيها وتفسير الغازها، ويمكن القول ان لها تفسيرات وايضاحات بعدد قرائها. (المعطف) يمكن اعتبارها امثولة او حكاية، أو لغزاّ او اختباراً في شيء لا معنى له، في اللامعنى. غير ان هناك اغراء يدفع المرء لقرائتها لكونها تطرح موضوعاً جدّياً بطريقة تهكمية و ذات مغزى اجتماعي وأخلاقي. في قصته (الانف) اشار (غوغول) الى مدى الفساد المستشري داخل الهيكل المراتبي للموظفين الحكوميين. اما في قصته (المعطف) فقد هاجم بسخرية الكيان الطفيلي للمؤسسة الحكومية الروسية، الفاسد والكسول والمشبع بكل ما هو مزيّف، الدوائر الحكومية المكتظة بسلسلة من الموظفين العقيمي الفائدة والذين ينحدرون في هيكل من المراتبية تتميز بالسطوة والقوة والنفوذ ويقوم كل مرؤوس فيه بتقليد رئيسه الذي يخضع له ويخشاه.(كما هي الحال اليوم في معظم البلدان التي يتراكم فيها الغبار على كراسي السلطة التي لا تتغير ولا تتحول)
لقد تمكن النقاد الروس الأوائل القائلين ان الأدب يجب ان يحمل معه رسالة أخلاقية، على قراءة الرسالة الاتهامية الواضحة المتضمنة في قصة (غوغول). مع ان البعض ينساق الى قراءة (المعطف) باعتبارها رسالة شفقة، باعتبارها دعوة عاطفية لنشر علاقات المحبة الأخوية. ف (أكاكي) هو الموظف المسالم الصغير المنكب على نسخ الوثائق والمثير للشفقة حين يكون وجوده محطّ سخرية باقي الموظفين العاملين في نفس الدائرة وموضع نزوات اضطهادهم، كما ان تجاهله لكل ما يوجه له من مقالب قاسية ومزاح فظ يجعله أشبه بمؤخرة الجسم التي تتلقى كل الصفعات والضربات بسبب ادائه المتواضع في عملية نسخ الوثائق، ورغم ذلك فان (أكاكي) يبدو قانعاً بكل ما يحصل له ولا يظهر عنه ما يدلّ على اي استياء او تذمر الا حين يصل مزاح الزملاء داخل دائرة العمل الى حد لا يطاق مما،يؤثر على ادائه في العمل، حينها تبدر عنه بعض مظاهر التذمر المتسامح اللطيف الدمث، وعند هذه النقطة تتغير لهجة القصة فيستقدم (غوغول) شاباً انضم مؤخراً الى نفس دائرة العمل وصار على وشك ان يشارك (أكاكي) تلقي وتحمل سخرية واستهزاء بقية الموظفين داخل المكتب، ولكن فجأة صارت تصدمه سماع التغريدات المنبعثة من صوت (أكاكي) والتي أثارت في قلبه الأسى والشفقة ودفعته ليرى الأمور بمنظار مختلف ، كأن هناك قوة غريبة جعلته يستطيع سماع الاستغاثات التافهة من خلال التغريدات التي كان يطلقها (أكاكي) لكي يتركوه ويعفوه من حملاتهم الشرسة، لقد كانت تنفذ الى مسمعه الكلمات المؤثرة الحادة والغير منطوقة والتي تريد ان تقول:”انا لست الا اخّ لكم.” ويرافق قدوم هذا الصوت الآتي من الأعماق تنبيهاً للعالم بمدى استئثار السلوك اللانساني بالانسان، وكم من القسوة والوحشية تتخفى داخل السلوك البشري المتمدن ،ان الضحية في هذه القصة بملامحها الدينية المتسامحة تريد ان تروي للبشرية العبرة الأخلاقية الكامنة في حياة وموت (أكاكي) ، ان هذه الحياة القصيرة تلقي سؤالها الجوهري على الناس في كل زمان ومكان وهو انه كيف يمكن لشخص يتميز بكل تلك الوداعة والطيبة ان يختفي بهذه السهولة من العالم بعد ان تحمل وهو في محنته كل سخريات واهانات رفاقه البشر وكأنه كان يردد في آذانهم، ليؤكد لهم انه :” أخ للجميع.” ومع هذا الصوت الآتي من الأعماق يتعالى انذار موجه للجميع يقول :” كم هي القدرة على التوحش التي يمكن ان يختزنها الانسان؟” كم من القسوة تتربص داخل هذا الذي يدّعي انه ينتمي الى مجتمع متمدن او يتظاهر انه يسلك سلوكاً متحضراً.
من المهم النظر قليلاً في أصل التسمية وفي معنى كلمة (أكاكي) لكونها تؤكد على مبدأ الإعادة والتكرار والتشابه والذي يوازي تماماً ما يجري في عمله اليومي كناسخ ينكب على تدوين الوثائق داخل المكتب الذي سيقضي حياته فيه، فالاسم (أكاكي) ومهنة النسخ اليدوي المتواصلة التي لا تتطلب اي جهد فكري طوال فترة العمل اليومي كفيلة أيضا باعادة انتاج شخصية (أكاكي) الذي سيقضي كل حياته يكرر عملية نسخ المدونات ، عملية تعيد صنع الناسخ نفسه ، انهاتصنع نسخة اضافية عن ذاته التي تلهث بحثاً عن الحد الأدنى من ضروريات العيش (الغير كريم) في سياق حياته العقيمة.
ولأن (أكاكي) أمضى سنوات عديدة في نفس الدائرة ، يصر (غوغول) على تذكيرنا ان (أكاكي) ظلّ طوال كل تلك الفترة يحتل نفس البقعة في المكتب وفي نفس مركزه المهني ، في نفس الوظيفة، وفي نفس المهمة الكفيلة بالقضاء على كل موهبة باستثناء البلادة، اي موهبة اعادة تكرار نسخ الوثائق. غير ان اسمه يحمل سخرية اخرى فكلمة (كاكا) الطفولية في كثير من اللغات تشير الى فضلات البشر (البراز) وتوحي بالنفايات التي يلقيها الناس على (أكاكي) حين يعبر في الشارع ، كيف يعاملون هذا المخلوق وكأنه ذبابة مزعجة. ان غوغول يتلاعب بالمؤثرات الصوتية للاسم ويستمتع بتنويعاتها المنطوقة ويتفنن في طريقة عرضها الشاعرية.
هناك تبادل للأدوار مثير للجدل بين القارئ والكاتب في مجرى القصة يلقي الضوء على عملية النسخ باعتبارها نشاط (أكاكي) الأساسي ضمن الدائرة التي يعمل فيها، فالنسخ ليس الا عملية الكتابة في أنقى صورها. ولا يحتاج المرء الى خيال واسع ليرى تشابهاً بين عملية النسخ كنشاط يقوم به (أكاكي) وبين نشاط المؤلف (غوغول) الذي يشبه هنا الكاتب الفرنسي (فلوبير) حين كان يحلم بتأليف (كتاب عن لاشيء) فرآه النقاد المعاصرون رسولاً لمن يريد ان يجعل من ذاته مرجعاً للآخرين، وها هو غوغول يهيم بحياة النساك والرهبان الانطوائية مما دفعه ذات يوم الى هذا القول :” مثل ناسك صامت يعيش في هذا العالم دون ان ينتمي اليه”.
حين يرتدي (أكاكي) معطفه الجديد تتسارع ضربات قلبه ويتجدد لديه شعوره بالهدف ويسطع من عينيه وميض من الجرأة
وتتحول ملامحه الى هيئة رجل فحل. ولكن المعطف يحمل في طياته إشعاراً بالقيم الزائفة والعواطف التافهة وكمية من الأسباب السخيفة المتراكمة والتي تدعو جميعها الى سقوط الإنسان. يتعانق الحب والعذاب في قصة (المعطف) بغض النظر عن وجود موضوع للحب والعذاب او مدى واقعيتهما، فالحب قضية عظيمة تخص الانسان مهما كان موضوعه وهو بحد ذاته مصدر قوة لانهائية. واسلوب غوغول يشكل وسيلة تثير الاعجاب في مدى الازدواجية التي يقدمها النص عند عرض القصة اي تضخيم ما هو تافه والمبالغة فيه وتصغير كل ما يمكن ان نعتبره ذو مغزى.
ما يزيد في تعقيد النص ( الغوغولي) بالنسبة للقارئ هو انه لا يتضمن ازدواجية سهلة التناول وبسيطة ، اذ لا يمكن حلّ غموض هذا التناقض بتوجية المديح ل(غوغول) لأنه يكتب بحنان وواقعية ولديه احساس قوي بالواجب لتوجيه رسالة أخلاقية لبني البشر، أو بالمقابل توجيه المديح ل(غوغول) باعتباره كاتب مرح وهزلي ،معاد للواقعية ، ينغمس في صناعة وتنميق المواقف الاجتماعية المتخيلة والمشاهد المنعكسة على مرايا مشوشة. الحقيقة المرّة ان (غوغول) كاتب متلون ويختزن المعاني العديدة المحتملة التي قد لا تسمح بتقديم رسالة اخلاقية وحيدة في كتاباته او الاشارة الى مغزى ومعنى وحيد الجانب لتفسير ما يريد ان يقوله.
ربما يكون (نابوكوف) اقرب من استطاع الوصول والتعرف على قلب (غوغول) عندما وصفه قائلاً :” ان الفجوات السوداء المنتشرة في نسيج اسلوبه ما هي الا العيوب الموجودة في نسيج الحياة نفسها .”
ان غوغول صاحب الخيال القصصي الواسع ومن الطراز الأول يعطّل كل قوانين الطبيعة من أجل اخضاع العلاقات الواقعية الى قيم العدالة والمساواة، والتأكيد ان تجاوز العالم الخيالي الذي لا حدود ولا قيود له يمر عبر الارتفاع بالشرط الانساني وباقتلاع جذور الماْساة من حياة البشر.