بعد مئة عام من التوقيع على الاتفاقية أخذ يتردد وينتشر الحديث عن “نهايتها” بين المعلقين والصحفيين والمحللين وذلك عند تناولهم قضايا الشرق الأوسط، ويرجع السبب في بروز هذه النغمة الى الكاتب والمراسل الصحفي (باتريك كوبورن) الذي نشر في حزيران من عام 2013 مقالاً يناقش فيه تلك الاتفاقية باعتبار انها كانت المحاولة الأولى لإعادة ترتيب وتنظيم الشرق الأوسط بعد زوال الامبراطورية العثمانية التي كانت تمرّ في مرحلة الاندثار.
لقد أصبح فشل الاتفاقية عنصراً يدخل في فهم الشرق الأوسط المعاصر وليس من الصعب تفهم مثل هذا الأمر وهناك أربع دول تتهاوى – سوريا، العراق، اليمن، وليبيا- كنتيجة للتحول والانتقال التاريخي في المنطقة، فمن الواضح ان الحلول الاستيطانية لتلك الدبلوماسية التي انتجت حدود تلك المنطقة بدأت تتهاوى وأخذ التاريخ ينتقم من (مارك سايكس) ونظيره الفرنسي (فرانسوا جورج- بيكو) بعد ان صاغا الاتفاقية التي تحمل اسميهما.
وعادة ما تدرج عبارة “نهاية اتفاقية سايكس- بيكو” في النقاش ويتبعها شرح مستفيض يستعرض الطبيعة المصطنعة لدول المنطقة، فالحدود القائمة لا تبدو منطقية لان هناك شعوب مختلفة الأديان والقوميات والطوائف والأعراق داخل كل منها،وبالتالي ان هذا التشظي والتمزق الذي يشهده الشرق الأوسط هو نتيجة الأحقاد والنزاعات التاريخية القديمة التي عادت فأطلقتها اتفاقية (سايكس- بيكو) بخلقها لتلك الكيانات الغير طبيعية، والحل يكمن في إيجاد حدود جديدة التي ستزيل كل الأضرار التي جاء بها الدبلوماسيان في بداية القرن الماضي.
ان التركيز على الذكرى المئوية لهذه الاتفاقية هو نتاج لتاريخ سيء مجحف وعلم اجتماعي مزيّف، ولكن من المؤكد ان الاتفاقية ليست السبب في الاختلال الحاصل داخل المنطقة. كما انه من غير الممكن ان يكون الغضب العارم الحالي في الشرق الأوسط هو الذي قضى على الاتفاقية التي كانت في طور الولادة، اذ لم يكن الهدف من الاتفاقية وضع أطر وحدود للدول بقدر ما كان هدفها هو تحديد (مناطق النفوذ)، وقد بقيت فكرة مناطق النفوذ هذه حيّة حتى في اتفاقيات ما بعد الحرب.
وبشكل مغاير للفرنسيين فان حكومة رئيس الوزراء البريطاني (دافيد لويد جورج) بدأت بالنشاط لتقويض الاتفاقية فور التوقيع عليها من قبل وزير الخارجية البريطاني (سايكس). لقد قامت (مارغريت مكميلان) بإلقاء الضوء على هذا الموضوع في كتابها (باريس 1919) فذكرت ان التحالف البريطاني-الفرنسي لمحاربة (دول المحور) لم يخفف شيئاً من تنافسهما الاستعماري. اذ حالما خرج الروس من الحرب العالمية الأولى بعد الثورة البلشفية عام 1917 اعتقد رئيس الوزراء البريطاني حينها ان المنطقة الفرنسية المنصوص عليها في الاتفاقية والتي تشمل جنوب تركيا والجزء الغربي من سوريا بالإضافة الى لبنان والموصل لم تعد ضرورية كحاجز منيع يفصل بين مواقع القوات البريطانية والروسية. صحيح ان الحدود الحالية القائمة في الشرق الأوسط لم توجد دون خلفيات او سوابق، ومن الصحيح أيضاً ان هذه الحدود تم تخطيطها من قبل الدبلوماسيين الأوروبيين وضباط القوى الاستعمارية ولكنها لم تكن مجرد خطوط سطرتها أمزجة ذلك الزمان على خريطة بيضاء، بل تم تشكيلها وتخطيطها بناء على الحقائق والوقائع السياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة في تلك المنطقة بما فيها التقسيمات الإدارية العثمانية وممارساتها. ويمكن العودة وتقفي مصدر حدود الشرق الأوسط الحالية الى مؤتمر (سان ريمو) والذي خرجت عنه (معاهدة سيفر) في آب 1920، ورغم ان الحركة القومية التركية ألحقت الهزيمة بهذه الاتفاقية الا ان الاتفاقية استطاعت ان تضع حجر الأساس لعملية تمكنت (عصبة الأمم) في مجراها ان تؤسس للانتداب البريطاني في كل من فلسطين والعراق عام 1920 ومن ثم الانتداب الفرنسي على (سوريا) في عام 1923 وتم رسم الحدود النهائية للمنطقة عام 1926 حين تم الحاق ولاية الموصل بالمملكة العراقية التي كانت حينذاك تضم مقاطعتي بغداد والبصرة.
ان منتقدي الحدود الحالية في الشرق الأوسط هم مخطئون حين يفترضون ان تخطيط الحدود يجب ان يتتبع معالم الجغرافيا الطبيعية كالأنهار والجبال من أجل ديمومتها، هم يتجاهلون عن عمد ان معظم الحدود على خريطة العالم في وضعها الراهن ، ان لم تكن كلها، استقرت كنتيجة للترتيبات السياسية، كما ان الجماعات السكانية التي تشملها تلك الحدود ليست متجانسة. وهذا الأمر ينطبق على الشرق الأوسط حيث جرى ترسيم الحدود حسب توازن المصالح الاستعمارية في مواجهة المقاومة المحلية ثم تحولت خلال المئة عام الأخيرة الى حدود مؤسساتية رسمية. وفي بعض الحالات – مثل مصر، إيران والعراق- أصبحت تلك الحدود بمثابة تعريف لأراض طالما كانت موطناً لكيانات ثقافية كبيرة متماسكة تجعل منها حدوداً ناجعة في العصر الحديث. أما الكيانات الأكثر حداثة كالسعودية والأردن فقد وصلت الى وضعها الحالي في اقرن الماضي، فلم يكن بالإمكان الحديث عن كيان أردني قبل قرون من الزمن، ولكن توجد اليوم دولة اردنية وسلامة حدودها هي في صلب اهتمام الشعب الأردني.
تكشف النزاعات الدائرة اليوم في الشرق الأوسط انها لم تنشب بسبب شرعية الحدود والمناطق في سوريا او العراق او ليبيا، بل ان سبب الصراع الرئيسي يعود الى مرجعية السلطة في تلك الدول ومن له الحق في ممارستها، فالنزاع في سوريا بدأ كانتفاضة شارك فيها مختلف فئات الشعب السوري من نساء ورجال، صغار ام كبار العمر، سنّة أو شيعة، أكراد او من الطائفة العلوية وذلك ضد طاغية فاسد، مثلهم في ذلك مثل سكان ليبيا او مصر او تونس او اليمن او كما حصل في البحرين عامي 2010-2011.
ان ضعف وتناقضات الأنظمة الاستبدادية تكمن وراء المعاناة والمحن التي تعيشها شعوب الشرق الأوسط، حتى ان كل هذا الهيجان الديني والطائفي هو نتيجة ذلك الاستبداد الذي صارت تعرف به دول الشرق الوسط اكثر مما تعرف عن طريق اتفاقية (سايكس-بيكو).
ان غياب وعدم وجود حدود طبيعية لمنطقة الشرق الأوسط الجغرافية ليس سبباً يؤدي الى انقسامات دينية وعرقية، وكل اللوم يجب توجيهه الى أنانية القادة السياسيين وأنظمتهم الاستبدادية التي ترعى مثل تلك الانقسامات على أمل الاحتفاظ بكراسي الحكم. ففي العراق أنشأ (صدام حسين) نظاماً من المحسوبيات والولاءات المبنية على علاقات القرابة والارتباطات الشخصية من خلال حزب البعث الحاكم وأعطى صلاحيات السلطة للفئة السنية على حساب الشيعة والأكراد، وكذلك الأمر بالنسبة لبشار الأسد ومن قبله والده حافظ، فقد استخدموا السلطة لبناء شبكة من العملاء والأتباع، وتمتع العديد من أعضاء طائفتهم العلوية بالامتيازات ولاسيما هؤلاء الذين يشكلون الدائرة المقربة من العائلة الحاكمة. وتشجع (الوهابية) القادة في المملكة العربية السعودية على التفسير الطائفي لصراعها مع إيران من أجل النفوذ وبسط الهيمنة الإقليمية، وينطبق هذا الأمر على بقية الأيديولوجيات الأخرى التي تتسابق من أجل السلطة والسيادة في كل من سوريا والعراق واليمن.
الهويات الدينية والطائفية تلعب دوراً في الصراع الجاري من أجل السيطرة على الشرق الأوسط ولكنها ليست سبب الصراع الذي يرجع اساساً الى نهج واسلوب الحكم الاستبدادي كما فرضه الطغاة المتعاقبون على السلطة في الشرق الأوسط والذين حرضوا شعوبهم على الاقتتال ضد بعضهم البعض ليسهل عليهم الطغيان والاستبداد.