بقلم (كريستوفر سولومون) – 27 أيلول 2016
العقيد (اديب الشيشكلي) مع ضباط من الجيش السوري في عام 1953. على يساره في الصف الأمامي يجلس رئيس الدولة (فوزي سلو) والعقيد (عزيز عبد الكريم). في الصف الخلفي وبالنظارات يجلس العقيد (امين أبو عساف) ثم (رياض كيلاني) و (محمود شوكت).
مرّ 52 عاماً على اغتيال قائد سوري كان يعيش في المنفى، في قلب البرازيل. في الوقت الذي يتابع فيه المراقبون الوضع السوري في محاولة لفهم الحرب الطاحنة التي تدور في ذلك البلد، والمرحلة التي عاش فيها (اديب الشيشكلي) قد تلقي بعض الضوء.
ان العلم الحالي الذي ترفعه أطراف المعارضة السورية والذي يتميز بألوانه الثلاثة، الأخضر والأسود والأبيض بنجومه الثلاثة الحمراء هو نفسه الذي كان يرفرف في الأجواء السورية منذ الاستقلال وحتى الخمسينيات وهي فترة تميزت بالاضطرابات والدسائس والانقلابات العسكرية والتجارب الاولى في الديمقراطية والحكم الاستبدادي. وفي قلب تلك المرحلة عاشت شخصية سياسية قوية نادراً ما تذكر اليوم..
هي شخصية (اديب الشيشكلي).
بينما ينهمك السياسيون في كثير من العواصم الغربية اليوم بالتعاطي مع العنف المستمر والمدمر في سوريا فان الارث الذي تركه الشيشكلي والدروس التي تعلمنا إياها تلك الفترة تستحق ان نتذكرها الآن.. عن حكم الشيشكلي لسوريا، وعن الاتجاهات السياسية حينها.. عن علاقته بالحزب القومي السوري، والاطاحة به لاحقاً، كلها قضايا بإمكانها ان تزودنا حالياً بمؤشرات عما يمكن ان نتوقعه والصراع الدائر في سوريا دخل في عامه السادس.
الانقلابات، والاستقرار، والاستبداد
الشيشكلي كردي سوري من حماة خدم ضمن الجيوش العربية التي شاركت في الحرب العربية- الإسرائيلية عام 1948، واكسبته اعماله البطولية على جبهة القتال اهتمام القادة العسكريين. وعرف عنه بكونه شخص لا ينجر الى تيار أيديولوجي معين ويجالس العديد من النشطاء السياسيين الشباب في نادي الضباط بدمشق، كما عرف عنه صلاته القريبة من اتباع (أنطون سعادة) في (الحزب القومي السوري) والمعروف حينها أيضا باسم (الحزب الشعبي السوري)، كما ان مشاركته في النشاطات التي تؤججها الأفكار القومية والموجهة ضد الفرنسيين كعملية احتلال قلعة حماة عام 1944 زادت من سمعته كرجل مهمات.
تعاقبت على سوريا بعد الاستقلال سنوات من الاضطرابات السياسية وشهدت بروز قيادات حكمت البلاد وبرزت شخصيات وطنية مثل شكري القوتلي، ومرّت عليها لاحقاً نزاعات سياسية بين الكتلة الوطنية وبين حزب الشعب المؤيد للعراق وكان مركزه حلب، بالإضافة الى الكثير من دسائس (الحزب القومي السوري) ومنافسه الرئيسي من تنظيمات الطلبة التي هيمن عليها حزب (البعث)، ولقد مهدت هذه الأوضاع الى سلسلة من الانقلابات العسكرية هزت البلاد وحولتها الى دولة مارقة.
جاء الشيشكلي الى مركز السلطة عام 1950 بالانقلاب العسكري الثالث الذي فرض استقرارا مؤقتاً ولمدة قصيرة، وكان الشيشكلي قبل ذلك قد ايد حسني الزعيم الذي قاد الانقلاب العسكري الأول بعد استقلال سوريا في آذار 1949، ولكن الانقلاب الذي حمل الشيشكلي الى السلطة يبقى العلامة الفارقة على دخول الجيش التام لعالم السياسة في بلد عربي، وفتح الطريق امام جيوش المنطقة وشهيتها نحو تذوق طعم مكاتب الرئاسة. ويعتبر البعض ان ما ينجم عن ذلك له فوائده، فقد وجه نظام الشيشكلي ضربة لتفشي الجريمة وسيطر بقوة على الحدود السائبة، كما سعى لتحديث الجيش النظامي، واستغل بشكل جيد قوة وتأثير الراديو والاذاعة مثلما عرف عنه في المنطقة، وحتى قبل قدوم الرئيس المصري (جمال عبد الناصر)، حماسته وولعه بفن القاء الخطب التي كانت تنقلها أمواج الاذاعة. كان الشيشكلي اول قائد في المنطقة العربية بعد نيل الاستقلال يكرّس عبادة الشخصية حيث كانت صوره تظهر في نوافذ كل الحوانيت داخل سوريا وحرص على تأسيس أول وزارة مختصة بالأعلام والدعاية. كما كان جواسيسه وعملائه الأمنيين ينتشرون في كافة انحاء البلاد لمراقبة أي نشاط محتمل معاد له، وقام بإلغاء كافة الأحزاب السياسية وعلى رأسها الأحزاب الدينية. وقبل قيام النظام في مصر بممارسة لعبة القط والفأر بوقت طويل مع (الاخوان) حظر الشيشكلي على (الجبهة الإسلامية الاشتراكية) القيام بأي نشاط سياسي، ولهذا تمت اقالة (معروف الدواليبي) كوزير للاقتصاد لعلاقته ب (الإخوان) والمقرب من (حزب الشعب) في مدينة حلب.
بعد عودته من مصر استقبل الشيشكلي في المطار من قبل الضابط (عدنان المالكي) المؤيد لحزب البعث، والذي قدم للشيشكلي مطالب تتعلق بإجراء إصلاحات سياسية، فطلب الشيشكلي من المالكي ان يزوده بأسماء كل من شارك في المواجهات الذين القي بهم في السجن.
ورغم حملات القمع التي قام بها الشيشكلي فهناك من يستعيد بذاكرته تلك الفترة بشيء من الولع ويذكر بالخطوات الطليعية التي تم تنفيذها اثناء فترة حكمه، كإقامة (معرض دمشق الدولي) عام 1954 وهو مشروع كان يطمح الى تقديم صورة براقة عن البلاد، ونفس الأمر مع بناء مرفأ (اللاذقية)، ثم هناك المعلّمة (ثريا الحافظ) وهي المرأة الأولى التي جلست في البرلمان عام 1953. ولكن بقي السوريون في رهبة من حكمه حتى بعد الاطاحة به.
هكذا يتشدق ايضاً نظام الأسد بكونه حافظ على هالة الاستقرار والحداثة والسلوك العصري نحو النساء في كل المناطق التي يسيطر عليها، رغم كونه جزءاً مما يسميه محور (الممانعة) الايراني، ويدعي تبني العلمانية لجلب تأييد الأقليات الدينية الأخرى في سوريا والشرائح السنية التي لا تريد للمتطرفين الإسلاميين ان يسيطروا على الحياة العامة في البلاد، والغريب كيف يتماشى ادعاؤه للعلمانية مع دعوته لمليشيات ولاية الفقيه التابعة ل (حزب الله) اللبناني ودعوة الميليشيات الأخرى لملالي إيران والعراق (العلمانيين) لإنقاذ سلطته المتهاوية من ثورة الشعب السوري.
التوجهات الإقليمية والدولية
ما زال لعبارة الشيشكلي عام 1953 لها حضور راهن والتي قال فيها:” ان (سوريا) هو الاسم الرسمي لدولة تقع داخل حدود مصطنعة رسمتها الامبريالية.”
لقد تعرضت حدود الدولة السورية وبشكل مستمر الى نوبات من المحاولات الانفصالية او الى محاولات اختبار من دول مجاورة، والأمثلة التاريخية تتضمن (مرتفعات الجولان) ولواء الإسكندرون ثم منطقة الإدارة الكردية. ويطرح بعض المحللون اليوم موضوع الدولة العلوية ايضاً في نفس هذا السياق. ومثلما ادت النزاعات السياسية والعرقية الداخلية الى زعزعة الاستقرار، حصل نفس الأمر بالنسبة للنزاعات السياسية الإقليمية التي لم تكن في أيام الشيشكلي سوى سباق للهيمنة بين العراق والحكم الهاشمي المدعوم من بريطانيا والتحالف المصري السعودي.
اما الغرب فكان ينظر الى (سوريا) من خلال الحرب الباردة والمعركة ضد الشيوعية، واستمرت فرنسا في سعيها لضمان نفوذها داخل مستعمراتها السابقة بهدف كبح جماح البريطانيين. وبغض النظر عن العملية الانقلابية وحكومة الشيشكلي العسكرية، فقد عرف عنه رغبته في الحفاظ على استقلال سوريا وسيادتها في فترة اشتد فيها النفوذ الغربي في المنطقة، فتهرّب من تلقي المساعدات العسكرية من إدارة (ايزنهاور) في نفس الوقت الذي حافظ فيه على سوريا بعيداً عن الكتلة السوفييتية. وكان مشروع (الهلال الخصيب) الذي يشار اليه ايضاً باسم (حلف بغداد) هو المحرك الرئيسي في التوجه السياسي لمنطقة الشرق الأوسط. وامتد حينها مجال النفوذ البريطاني الى العراق وكان الهدف هو الغاء الحدود الاصطناعية، وهو احتمال يعكس مدى التهديد الغربي الكامن وراؤه دفع القوى الوطنية داخل سوريا الى الابتعاد عن أي تقارب محتمل بين دمشق وبغداد.
جابهت الحكومة المركزية الضغوط المفروضة من جهات متعددة، ومع انتهاء حكم الشيشكلي كانت مدينة (حمص) تحتل المركز الرئيسي للنشاط المناهض للشيشكلي. وكان يعتقد ان الدروز هم الذين يشكلون التهديد الأكبر لنظام حكمه، اذ اشتهر بجهوده التي بذلها للجم العشائرية وانتشارها بين الدروز في جنوب سوريا، ولن يغفر له الدروز العدوان العسكري وعمليات القصف التي شنّها على جبل الدروز، مما دفع العديد من الضباط الدروز وهم العمود الفقري في التحالف المدعوم من قبل العراق لكي يتآمروا ضده.
لا يزال حتى الآن التحريض الإقليمي يلعب دوراً في كل مناطق سوريا، وتحتل حلب الموقع الرئيسي في نشاط القوى المناهضة للأسد، بالإضافة الى ان السنوات الطويلة التي كان حزب البعث يمارس فيها سياسة التعريب القسرية نحو الأكراد وما تركته من آثاراً مؤلمة. اصطدم الأكراد مع أنصار الأسد مرارا عديدة في مدينة الحسكة، كما ان العنصر الرئيسي في استراتيجية الدولة الإسلامية لاستقطاب السنة من داخل الثورة السورية هو مواصلة تطبيق أيديولوجية تدمير الحدود القائمة من أجل إنشاء دولة الخلافة الإسلامية.
ولتثبيت وترسيخ السلطة في سوريا، اكان ذلك انطلاقاً من دمشق او الرقة، يلجأ القادة الصوريون الى طرح تصوراتهم عن القوة من منطلق استبدادي ومن وجهة نظر الطاغية ورغبته في الاحتفاظ بموقع السيادة في الدولة. ومثلما واجهه الشيشكلي صعوبات لتطبيق سياسته خلال فترة حكمه يواجه الأسد نفس الأمر اليوم.
الشيشكلي والحزب القومي السوري الاجتماعي وحركة التحرير العربية
لقد تمتع الحزب القومي السوري بشعبية واسعة في سوريا أيام حكم الشيشكلي، ولم تبدأ أيامه في التدهور السياسي الا بعد سقوط الشيشكلي. وطالما اعتبر لبنان منطقة اختباء ولجوء للساسة المنفيين، كميشيل عفلق، الايديولوجي المنظر لحزب البعث، والذي عاد الى سوريا ليطلق عنان الانتقام على الحزب القومي السوري بعد سقوط الشيشكلي. وبعد اغتيال نائب رئيس الأركان العامة في الجيش السوري العقيد (عدنان المالكي) على يد الرقيب (يونس عبد الرحيم) وكان من اتباع الحزب القومي السوري، الذي انتحر ووضع الحزب على أثرها ضمن القائمة السوداء واجبر على نقل نشاطه نحو العمل السري مع صعود بريق حزب البعث.
كان الحزب القومي السوري موضع ترحيب من قبل الشيشكلي خلال العام الأول من حكمه، ولكنه امتنع عن تبني العقيدة المركزية لذلك الحزب والتي تتخيل قيام كيان سوريا الكبرى الموحدة عوضاً عن الوحدة العربية كما يتخيلها حزب البعث، وتوصل الشيشكلي الى تأسيس حزبه الخاص وسماه (حركة التحرير العربية) عساه يحصد شيئاً ما في حال سيره بهذا التوجه. ورغم عدم وجود أي علاقة أيديولوجية بين الحزب القومي السوري (ح ق س) وبين حركة التحرير العربي ( ح ت ع) الا انه يوجد نفوذ كبير للتنظيم الأول على تنظيم الشيشكلي من حيث تركيب الحزب والتحية والتسلسل الهرمي للسلطة، كما ان (ح ت ع) كان ينشط باتجاه تبني فكرة الوحدة العربية، بينما (ح ق س) كان يؤكد على فهمه الخاص للقومية بما تتضمنه من مكون اسطوري، ووحدة الكيان السوري المتخيل.
لقد اختفى هذا الحزب (ح ت ع) من الحياة السياسية في سوريا. في عام 1954. وبعد رحيل الشيشكلي قام رئيس الجمهورية (هاشم الأتاسي) بالتقاط ما تبقى من تركة الشيشكلي دون ان يحظر نشاط الحزب بل سمح لسكرتير (ح ت ع) (مأمون الكزبري) بالترشح الى البرلمان حيث فاز بمقعد في الانتخابات، لكن الحزب انتهى سياسياً في نهاية المطاف مع بداية الوحدة بين مصر وسوريا، اذ لم يكن بمقدوره الاستمرار والبقاء دون الشيشكلي
نساء في تنظيم (ح ت ع) عام 1953
يوجد اليوم بعض المعالم التي تذكر بهذا التنظيم (ح ت ع) وبالإمكان مشاهدتها، ومنها الساحة الرئيسية في دمشق على مداخل الأحياء المسيحية والمسماة (ساحة التحرير) تيمنا باسم التنظيم (حركة التحرير العربي).
وسمح بدفن الكزبري، الذي كان قد استلم سابقاً منصب رئيس الوزراء، في مدينة دمشق حين وفاته عام 1998 وجرت مراسيم الجنازة في احتفال شبه رسمي. وحتى عام 2016 كانت صوره ما تزال معلقة داخل القاعة الرئيسية للبرلمان السوري تقديراً لدوره كناطق باسم البرلمان في فترة حكم الشيشكلي.
تجمع لحركة التحرير العربي عام 1953
انحدرت شعبية الحزب القومي السوري وواجه الملاحقة حتى عام 1960 حين بدأ لبنان بإطلاق سراح قادة الحزب من السجون، ثم باشر الحزب بإعادة بناء صفوفه خلال السبعينيات والثمانينات من القرن الماضي، واثناء الحرب الأهلية اللبنانية قام الحزب بمد جسور الصداقة مع حافظ الأسد واستفاد من تلك العلاقة لاحقاً، فالحزب عاد للظهور عسكريا مع الحرب الدائرة في سوريا حيث تنشط ميليشياته في القتال دفاعا عن نظام الأسد الى جانب الميليشيات الايرانية وحزب الله والميليشيات العراقية.
اما حزب البعث فقد حافظ على ازدرائه للشيشكلي معتبراً إياه عميلاً اجنبياً، ولا يوجد اية إشارة الى الشيشكلي في نشرات (ح ق س) لأن ذلك كان سيثير عداء الدروز السوريين والبعثيين مما سيؤثر على تحالفهم في الدفاع عن النظام السوري.
عصام المحايري رئيس (ح ق س) الى اليمين (بالنظارات) في جلسة للبرلمان
ما زال الجيل القديم من (ح ق س) يتحدث بنوع من الحنين والولع عند التطرق الى الشيشكلي خلال الأحاديث التي تجري في الأماكن الخاصة. وذكر سامي مبيض الذي أنشأ مؤسسة دمشق التاريخية “لقد تنازل (عصام المحايري) عن رئاسة الحزب عام 2015 وكان صديقاً مقرباً من الشيشكلي. وفي مقابلة من أربعة أجزاء مع قناة (الدنيا (الشبه رسمية عام 2010، تحدث المحايري بإيجابية عن الشيشكلي، وتم بث كلماته على التلفزيون الرسمي دون مراقبة”.
وتفتخر قيادة (ح ق س) بحقيقة ان الشيشكلي وشقيقه صلاح كانا من أوائل المنتمين الى (ح ق س) مع أكرم الحوراني الذي أصبح في فترة لاحقة أحد الأعضاء البارزين في حزب البعث. ورغم ان الشيشكلي لم يلعب دوراً ايديولوجياً في (ح ق س) واقتصر تأثيره على الحماس العاطفي، ولكن الاحتفاء به كشخصية هامة ومتميزة في الحزب بقي مستمراً، ومع ازدياد نفوذ الحزب في ظل بشار الأسد فقد يعاد تأهيل الشيشكلي في الذاكرة العامة للدولة.
كما ويراهن الحزب على فوز الأسد الذي سيتيح له حينها دورا مركزياً في مستقبل سوريا، لذلك يشارك بميليشياته الى جانب الميليشيات العراقية وحزب الله وشبيحة النظام للحفاظ، وبأي ثمن، على سلطة الأسد. ومع توافد الأضرار القادمة من الدول المحيطة يمكن القول ان مفهوم البعث عن العروبة والقومية العربية الواحدة أصبح اليوم في (خبر كان).
سقوط الشيشكلي عام 1954 والارث الذي تركه في سوريا
بدأ الشيشكلي بتقليص دور الجيش في الحياة السياسية السورية كمحاولة منه لإعطاء الشرعية لحكمه، ونتيجة لذلك لجأ العديد من الضباط ممن شعروا بالإحباط والحرمان الى موقع خصوم الشيشكلي السياسيين. وبمساعدة العراق تمكنت فصائل عسكرية من ان تجمع نفسها في جبهة واحدة نجحت بالإطاحة به، وبعد استيلاء البعث على السلطة تم بذل كل الجهود لانتزاع وجود الشيشكلي من الذاكرة الجماعية السورية، وكذلك لاقتلاع اسمه من التاريخ السوري، مع انه يبقى في الردهات الخاصة وفي بعض الأوساط شخصية سورية مرموقة.
وذكر سامي المبيض ايضاً ” لم يرد ذكر الشيشكلي في الكتب المدرسية ضمن كافة المستويات الدراسية، كما لا يرد ذكره على شاشة التلفزيون باستثناء مرة واحدة من خلال المسلسل التلفزيوني “حمام القيشاني” الذي انتج في التسعينيات وقام حينها الممثل “أسامة الروماني” بأداء دور الشيشكلي، كما لم ينشر سوى كتاب واحد عن الشيشكلي في سوريا منذ استقالته عام 1954 وتناوله تناولاً عادياً جداً.” ولا يوجد في دمشق أي نصب او لوحة تذكارية تحمل اسمه، حتى ان التاريخ الرسمي للقصر الرئاسي والذي أشاده الشيشكلي على رأس شارع (أبو رمانة) تحول اليوم الى مكتب نائبة رئيس الجمهورية (نجاح العطار) يبقى تاريخه حتى الان مبهماً، وهو نفس القصر الذي أعلن (جمال عبد الناصر) من شرفته عن الوحدة المشؤومة بين مصر وسوريا.
لم يعود الشيشكلي الى منصب الرئاسة في سوريا منذ ان تركه عام 1954. ومع ذلك توجد حالتان خطط فيهما الشيشكلي للعودة الى السلطة، الأولى كانت كما تم الكشف عن ذلك، بعد مغادرته مباشرة حين أراد ان يحول اتجاه الطائرة نحو بيروت تلبية لرغبة مؤيديه والحاحهم عليه بالعودة. وقد عرقلت هذه الجهود وزارة الخارجية الأمريكية وجرى حرمانه من الهبوط في مطار بيروت الدولي.
صورة للشيشكلي في منفاه بالبرازيل قبل أيام من اغتياله
أما الحالة الثانية فقد حصلت بعد سنوات قليلة من الأولى وذلك عندما قام الحزب القومي السوري بجولة من الاجتماعات السرية في بيروت مع الشيشكلي، وشقيقه (صلاح) بالإضافة الى مجموعة من مخططي انقلاب يجري تدبيره، غير ان الشيشكلي، الرجل العسكري المحترف، عرف من خبرته ان المخطط لن يلقى تأييد الجيش السوري، فقرر التخلي عن المشاركة.
الانتخابات التي تلت بعد أربع سنوات من دكتاتورية الشيشكلي جلبت معها الوحدة المصرية السورية القصيرة الأمد، وجلبت مع ختامها ايضا الخلافات والنزاعات التي فاقمها تشرذم الجيش وتحوله الى فصائل متشاحنة بعد غياب الشيشكلي. ثم برزت مجموعات من الضباط شكلوا لأنفسهم شبكاتهم السرية تحت رعاية القيادات السياسية. ودفعت المصالح المشتركة الى قيام تحلف بين حزب البعث بقيادة (عفلق) والحزب الشيوعي السوري لإقامة مرحلة جديدة من حكم استبدادي أوصل البلاد الى الانقلاب الذي قاده البعثيون الجدد في عام 1966 وكان المقدمة لوصول سلالة الأسد الحالية الى السلطة.
عند تقييم تلك المرحلة من تاريخ سوريا المقترنة بحكم الشيشكلي، من المهم ان يتذكر المرء، لا سيما مع تصاعد اخبار الثورة، انه كان بإمكان الشيشكلي اللجوء الى القوة (فهو كان يتمتع بولاء عدد من الفصائل العسكرية بما فيها كتائب مدرعة) ولكنه آثر التنازل عنها لصالح الانتقال الى المنفى الذاتي وتجنب حرب اهلية. ومن المحتمل انه أدرك ان سوريا بأساسها السياسي الهش والخصومات الإقليمية المحيطة ستكون
خطرا يهدد البلاد لأمد بعيد. وهذا الخوف الذي حاول ان يتجنبه الشيشكلي هو الذي يهيمن اليوم بكل طاقته على الأرض السورية.
وبالنسبة للسوريين اليوم الذين مازالوا يتذكرونه فقد كان الشيشكلي قائدا سبب الكثير من الانشقاقات والخلافات، وينظر اليه البعض على انه داعية للتغيير او هو دكتاتور يجب ازدراؤه. لقد تم اغتيال الشيشكلي في بلدة (سيرس) في البرازيل على يد شاب درزي هو (نواف غزالة) عام 1964 انتقاما لجرائم الشيشكلي ضد الدروز في حملته العسكرية على جبل العرب.
يبقى السوريون محصنون ضد احتمال التدخل الأجنبي، وبالنسبة للأسد فان المحافظة على استقلال سوريا من النفوذ الأجنبي يبقى العامل الأساسي لمقاومة الاندفاع نحو المفاوضات في (جنيف) وفكرة الانتقال السياسي كما تدل تصريحاته التي أطلقها خارج جامع في (داريا)، ثم ان زيادة اعتماده على (روسيا) و (ايران) ينظر اليه من قبل أنصاره على انه تعبير عن صداقة حقيقية وليس واضحاً بعد كيف ستكون وطأة تأثيرهما على الوضع السوري فيما تبقى من مجرى الحرب الدائرة.
استطاع الشيشكلي ان يرضي مصر والسعودية وسمح لفرنسا بالاحتفاظ بنفوذ رمزي داخل البلاد، ومثلما منح الأسد لروسيا وايران تأثيراً في البلاد والمنطقة، كذلك الأمر بالنسبة للشيشكلي الذي عرف كيف يستغل اللاعبين في المنطقة للإبقاء على سوريا على الحياد اثناء الحرب الباردة لحماية استقلال البلاد، وكانت العراق الأداة الرئيسية لتأجيج الاستياء الداخلي وتنظيم القوى التي وحدت صفوفها ضده.