ان وراء الأكمة ما ورائها
قبل ان أبدأ بعرض هذا المقال لابد من تذكير اصحاب العقول المحنّطة من هواة رفع الشعارات البالية الذين ما زالوا يعيشون في مهاجع واقبية ومتاحف (الحرب الباردة) يتابعون تكرار استخدام مصطلحاتها ورموزها التي انتهت صلاحياتها، كما هو الحال في المحاولات البائسة لتفسير احداث وظواهر تجري اليوم عن طريق استخدام تعابير توحي بالمعرفة وهي في الحقيقة تثبت ان صاحبها الذي يدعي العلم والمعرفة والثقافة هو شخص ممعن في الجهل ويمارس مهمة التجهيل حين يفسر كل ما استعصى على حدود معرفته الضيقة بعبارة (كانت مؤامرة!) عبارة شائعة يغطي باستخدامها كل الظواهر الاجتماعية والسياسية والحركات والاحداث الدولية، فالمؤامرة عملية مجهولة تتناول الشأن العالمي المجهول أيضاً، انها دولية المنشأ والأهداف، والشخص او الكائن الذي يشبه المثقف، او شبه المثقف، يطيب له استخدامها على هذا النحو لأن كل ما هو دولي يقترن بالتعقيد وتشابك العناصر بحيث انه يفلت عن التعريف والتوضيح رغم ان الاشارة الى كونه مؤامرة دولية ستحفظ له رغبته الدفينة بانه ما زال يمتلك بعدا لا يدركه الآخرون لكونهم لا يعرفون تفاصيل المؤامرة... لا احد من اللاعبين الرئيسيين على الساحة السورية يمارس خفية عملية التآمر… ايران ، روسيا، أمريكا، تركيا، لا يحتاجون الى رداء المؤامرة من اجل اخفاء عوراتهم القبيحة.. ولن أنسى ان اذكركم بتعبير آخر استعيره من مخلفات الحرب الباردة يرادف كلمة (المؤامرة) ويتعلق (بالإمبريالية) ومن الضروري هنا اضافة (الإمبريالية العالمية) لأن (الامبريالية) تقترن ضمن مخلفات المصطلحات الثورية (بالعالمية) لكون (العالمية) ضرورة يفرضها منطق (الامبريالية)من أجل ان يفهم أشباه المثقفون المحنطون في اقبية تلك المرحلة العاجزون عن الخروج الى النور، الى الواقع الذي قد يكون مؤلما ولكنه ضروري لانخراط الانسان في عملية انتاج الحقيقة المربكة. معظم هؤلاء ما زال يعتقد واهما (هذه حال شبه المثقف الدائمة- اعادة انتاج الوهم) ان ابلغ تعبير عن المؤامرة بهذا المعنى هو (ان وراء الأكمة ما ورائها) وهو تعبير يعادل الاعتراف بالجهل في دنيا المعرفة المعاصرة. قد يساعد هذا المقال على معرفة ان (الشيطان الأكبر) بعيون أولياء الفقيه، اي امريكا، هو تعبير لا يصلح لكونه جاء من غياهب الثوابت الفقهية، والثوابت والغياهب لا تصلح ولا تستجيب لتفسير حتى شعرة من رأس العالم المتغير دائما، العالم الموضوعي، العالم الواقعي، العالم الحقيقي لا يتضمن عناصر ثابتة مطلقة لا تتغير. الثوابت الغيبية عالم آخر لا ينتمي لضرورات الحياة البشرية بل لضرورات التوسع الايراني مثلا.
من المؤكد ان المصالح الدولية وما يقترن بها من سياسة لا تخلو من المؤامرات السرّية، وهذه السرية تخضع لمستويات واجراءات تخضع لقوانين ملزمة وليس لإرادة الحاكم الأبدية، للمزاج المقدس لحافظ او ابنه بشار، لهذا يجري رفع السرّية عن ملفات المؤامرات حين تستوفي شروطها كما هو الحال مع وثائق -CIA – المنشورة والمتعلقة باغتيال عدنان المالكي من قبل عضو في الحزب القومي السوري عام 1955 بالتعاون مع ال -CIA- بالإضافة الى العديد من الوثائق السرية الأخرى. ولكن وثائق مؤامرات وكالات الاستخبارات لبريطانية والأمريكية وغيرها تختلف عن العوالم الغيبية والوهمية التي تعكس غياب الشفافية والعلنية للأنظمة الاستبدادية ومشاركتها في حبك المؤامرات ضد شعوبها كما هو الحال مع بشار الأسد ورحلاته الى روسيا و(سوتشي) وحميميم وطهران وغيرها العورات واماكن التآمر على الشعب السوري.
التحول الكبير او كيف فشلت الديمقراطية الأمريكية في مسيرتها
بقلم والتر راسل ميد
بينما يكافح الأمريكيون لاستيعاب التغيرات الاقتصادية المؤلمة والتطورات السياسية المثيرة للقلق تبرز بالمقابل صورة اكثر انحدارا نشاهد فيها مرور السياسيين الخاملين والهامشيين، ثم توالي الفضائح المتكررة، والمواقف العنصرية، واستقطاب وسائل الإعلام غير المسؤولة ، وتحركات زمرة من الشعبويين وهم يضخون أكوام من الدجل عن العلاجات الاقتصادية، وهناك ايضاً تزايد شكوك النخب الفكرية والخبراء، وتفشي مخيف لمظاهر العنف، وتزايد البطالة، واتساع الهجمات الإرهابية، والتحريض على مكافحة الهجرة، وانخفاض مستوى الحراك الاجتماعي، وسيطرة الشركات العملاقة على الاقتصاد، وتفاقم عدم المساواة، وظهور فئة جديدة من أصحاب البلايين القادمين من موجة الصناعات الثقيلة والتكنولوجية، وغيرها من اللوائح التي تصف الحياة الأمريكية على مدى 35 سنة بعد الحرب الاهلية. اي السنوات بين اغتيال الرئيس ابراهام لنكولن، في عام 1865، والرئيس وليام ماكنلي، عام 1901، وهي السنوات الأقل الهاما في تاريخ السياسة الامريكي.
لا يتذكر العديد من الأمريكيين اسماء الرؤساء المغرورين الذين عبروا داخل ممرات البيت الأبيض خلال تلك السنوات، والأصعب من ذلك تذكر اسماء أعضاء مجلس الشيوخ والمندوبين في الكونغرس ممن عملوا معهم، كما لا يوجد من يتذكر اي انجاز دبلوماسي للسياسة الخارجية الأمريكية في الفترة بين شراء الاسكا وبناء قناة بنما، باستثناء الدبلوماسيين المختصين العاملين في وزارة الخارجية، وان وجد من يستحق فسيكون من اصحاب الفضائح مثلما حصل مع الحملة الانتخابية للرئيس (غروفر كليفلاند) حين ارتفع خلالها شعار “ماما، ماما، اين والدي؟” وذلك اشارة الى الابن غير الشرعي للرئيس (كليفلاند)، ولكن وان كانت تلك سنوات مخيبة للآمال في حوليات الحكومات الأمريكية المتعاقبة، فهي تعتبر في نفس الوقت، سنوات لها أهمية غير عادية في التاريخ الأمريكي. كانت تلك الفترة التي أصبح فيها للولايات المتحدة أكبر اقتصاد في العالم والأكثر تقدمًا. فقد كونت شبكات السكك الحديدية عبر القارات سوقاً وطنية كبيرة، كما خلقت التنمية والتقدم الصناعي تقنيات وصناعات متقدمة وجديدة وأخذت الابتكارات المذهلة والاختراعات تتوالى بشكل منتظم من داخل ورش العمل والمشاغل مباشرة والتابعة لتوماس اديسون ومقلديه وخصومه، ثم قام جون د. روكفلر بتحويل النفط من مادة لا أهمية تجارية لها الى عنصر يدخل في بنية وأساس تطور الاقتصاد العالمي. كما أصبح للولايات المتحدة نظاما ماليا قويا ومتطورا يعادل النظام المالي للمملكة المتحدة. لقد بدأت الثورة الصناعية قبل الحرب الأهلية الأمريكية بوقت طويل نسبياً، غير ان المجتمع البشري لم يلمس آثار الثورة الصناعية حتى وقت متأخر اي بعد ان تمكنت الولايات المتحدة من التفوق في مجال الصناعة والانتاج الصناعي على المملكة المتحدة بحيث اصبحت أعظم قوة تصنيعية منتجة في العالم. لقد تركت التغيرات السريعة في المجال التكنولوجي والاجتماعي والاقتصادي التي جاءت بها الثورة الصناعية آثارها الواسعة على المؤسسات التي قادت الولايات المتحدة منذ الثورة الأمريكية.
لقد انتشر العمل العبودي والقنانة في مزارع السادة البيض في الولايات الجنوبية التي احتفظت بهياكلها وأفكارها السياسية القديمة بالإضافة الى الولايات الشمالية التي اصبحت قيمها ومثلها السياسية غير قادرة على تلبية الحاجات ضمن الاوضاع المستجدة، بل اصبحت تلك المثل عبئاً على التغيير في عالم ما بعد الحرب الأهلية الأمريكية.
تمر الولايات المتحدة الأمريكية اليوم في وضع مشابه، فالثورة التكنولوجية المعلوماتية تهز اعماق النظام الاجتماعي والاقتصادي كما فعلت الثورة الصناعية في السابق، والإيديولوجيات والسياسات التي كانت تلائم المجتمع الأمريكي قبل جيل من الزمن أصبحت وبشكل مطرد غير قابلة للتطبيق لمواجهة المشاكل الراهنة. ثم ان الأحزاب السياسية وبعض القادة السياسيين في الولايات المتحدة صاروا يفتقرون إلى الرؤية والأفكار التي يمكنها ان تحل مشاكل البلاد الأكثر إلحاحا.
أغلب النخب المثقفة والسياسية متمسكة جداً بنماذج وانماط غير فعالة لم تعد تصلح للتطبيق، اما الشعبويون الذين يسعون الى استبدال تلك النماذج فلا يملكون بدورهم اية اجابات حقيقية ايضا. انه زمن يدعو الى القلق ويدفع الى احساس عميق باليأس حول الديمقراطية الأمريكية والخوف من أنها وصلت إلى وضع قد لا تتعافى منه ابداً. ولكن اللجوء الى علاج سريع ليس مرحبا به، بل لا بد من الاعتماد على عملية ترتكز على النمو والتطوير. وستظل قابلية المجتمع للتلاؤم مع التغيير احدى اهم وأعظم مصادر قوة الولايات المتحدة، ففي القرن التاسع عشر غالبا ما كانت الناس تقوم بمقارنة لم تكن لصالح الولايات المتحدة حين كان الطرف الآخر من المقارنة هو النظام المتماسك للإمبراطورية (البروسية). اما اليوم فالمقارنة تجري مع الكفاءة التي يجري فيها التحديث الذي تقوم به الصين. هناك العديد من الأسباب التي تدفع للاعتقاد ان الولايات المتحدة تستطيع ان تجد طريقها نحو مجتمع انساني يستثمر الثروات التي ينتجها المجتمع الجديد.
وتأتي الحياة إليك مسرعة
عملية التحول جهد مؤلم، ففي مرحلة ما بعد سنوات الحرب الأهلية، كان لفشل السياسة عواقب وخيمة على الحياة الأمريكية. كانت هذه سنوات الاعمار المدني الشامل في الولايات المتحدة، حيث فشلت الحكومة وعلى جميع المستويات في معالجة المشاكل الناجمة عن عملية التوسع المدني، فالمساكن سيئة بشكل خطير ونوعية الغذاء سيئة، والتلوث واسع، والجرائم عالية، والخدمات الصحية اﻟﻌﺎﻣﺔ مزرية وعدم كفاية التعليم المدرسي – الشقاء كان يعم كل المناطق المدنية في الولايات المتحدة.
وكانت السياسة الزراعية كارثية أيضا. الحكومة الاتحادية دعت الرواد والمستوطنين الأوائل الى الاستقرار في الغرب الأمريكي على أراض هامشية بشكل متزايد والعديد منهم فقدوا كل ما لديهم. ان استخدام الآلات الزراعية
والأسمدة الصناعية ساعد على رفع الانتاج الزراعي ولكن المزارع العائلية الصغيرة اصبحت في وضع تنافسي صعب. كما ان الهبات والمساعدات الممنوحة لإنشاء الكليات والمعاهد من اجل تطوير العلوم الزراعية بالإضافة الى الاموال المخصصة لدعم توسيع السكك الحديدية، كلها كانت عاجزة عن تغيير القوة الاقتصادية المهيمنة في المجتمع الأمريكي: وهي المزرعة العائلية.
لقد تركت الثورة الصناعية تأثيرها على طريقة كيف سيكون بإمكان الناس تأمين الدخل المالي الضروري لضمان معيشتهم. في عام 1850، كانت الزراعة تشكل المصدر المعيشي ل 64 في المئة من الشعب الأمريكي
وبحلول عام 1900، انخفض إلى 38 في المئة، واليوم بلغت النسبة 2 في المئة.
كما ان الثورة الصناعية أدت أيضا إلى انخفاض التحرك والتحول الاجتماعي. اذ قبل الحرب الأهلية الأمريكية
كان الخط الفاصل بين الشغيلة وارباب العمل شديد التماسك قبل ان يصبح أكثر مرونة، فصغار السن الذين لا يملكون رأس المال وجدوا أنفسهم يعملون كحرفيين في المشاغل وتمكن عدد منهم من ارساء مشاغلهم الخاصة، الى ان تم استبدال المشاغل الصغيرة الخاصة بالمعامل الكبيرة. لقد كتب (هوراشيو آلجير) روايات عن جرأة من الفتيان ماسحي الأحذية وشجاعتهم وكيف استطاعوا النهوض من براثن الفقر من خلال مثابرتهم على العمل الشاق والتعبير عن شخصيتهم الايجابية، ولكن سرعان ما انقسم المجتمع بعد ذلك الى عمال واصحاب معامل.
وحالما أصبح تجاوز تلك الخطوط التي تقسم المجتمع الى من يملكون ومن لا يملكون أكثر صعوبة ازداد التباعد بين الطبقات الاجتماعية. في عام 1800 كان يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية الأغنياء والفقراء، كما وجد حوالي مليون امريكي من العبيد، ولكن بشكل عام كان الفقراء في الولايات المتحدة اقل عددا من بقية انحاء العالم، وقد تغير ذلك بعد الحرب الأهلية الأمريكية اذ ظهرت طبقة غنية من أصحاب المعامل واصحاب المشاريع بينما اشتغل عمال المصانع بين 12- 14 ساعة يوميا طوال ايام الاسبوع السبعة في ظروف عمل خطرة برفقة ضجيج المعامل.
ولم تكن الأسواق المالية منظمة بقوانين حينذاك، فكانت تحصل كل يوم حوادث الانهيارات المتكررة وما يرافقها من هلع ورعب حين يصيب الإفلاس شركة كانت تزدهر، او تقذف بعائلات موسورة من منازلهم وبيوتهم الفخمة الى أحضان الشوارع لينضموا الى صفوف العاطلين عن العمل في وقت لم يكن هناك اي ضمانات او تعويضات اجتماعية.
مع نهاية القرن التاسع عشر كان شبح البؤس يلاحق الأمريكيين حين لم يكن المستقبل سوى صورة قاتمة. ان انخفاض المزارع الخاصة العائلية مع تزايد واتساع المدن الكبيرة المكتظة بأعداد غفيرة من المهاجرين لدرجة جعلت العديد يعتقد ان نهاية الديمقراطية اخذت تلوح في الأفق، والمجتمع تحتدم فيه المخاوف، واندفع الاشتراكيون والفوضويون من اجل التحريض على الثورة ورافق ذلك اتساع مخاوف المحافظين على مستقبلهم وعلى قيمهم وثقافتهم بعد ان اجتاحتها وفود المهاجرين والافكار التي لم تكن مألوفة. مع ذلك خرجت الولايات المتحدة في بداية القرن ال 20 من أزمة التصنيع لتبني اقتصادا جديداً وفّر نوعا من الرخاء والحرية لأغلبية سكان البلاد.
لا يوجد مكاسب بدون آلام
جاءت “التعديلات” على ثلاثة مراحل. المرحلة الأولى بين عامي 1865 – 1901 الفترة التي ناضل فيها الأمريكيون وتصارعوا مع القوى الفاعلة لتشكيل المجتمع الجديد، في وقت كانت الحكومة فيه من الضعف والتنظيم وعاجزة عن القيام بالمهام التي كانت تقتضيها تلك الفترة. الاصلاح في الخدمة المدنية حسّن من مستوى العاملين في الوظائف الحكومية. حتى رجال الدين من اللاهوتيين أعادوا التفكير في العلاقة بين المشكلات الاجتماعية والنصوص الدينية، واخذت تتشكل تكتلات تتطلع الى الأمام في السياسة الأمريكية. لم يتمكن جيل ما بعد الحرب من حلّ كل المعضلات التي واجهته لكنه استطاع وضع حجر الأساس من اجل النجاح في المستقبل، فتكونت تدريجيا بنية ثقافية وسياسية ستدعم بدورها جملة من السياسات صارت تعرف ب “الفترة التقدمية” واصبحت تشكل المرحلة الثانية من “التعديلات” المذكورة. وشملت التعديلات ظهور مؤسسات ومنظمات حكومية اساسية مثل “النظام الاحتياطي الفيدرالي” وغيرها من وكالات الإدارة والتنظيم المختصة في العديد من النشاطات الاجتماعية والاقتصادية. رغم كل النجاحات المرتبطة 1933ب “الفترة التقدمية” وما تبعها من خطوات راديكالية بعيدة المدى مثل “العقد الجديد” او “الصفقة الجديدة” وهي مجموعة من البرامج الاقتصادية التي أطلقت في الولايات المتحدة بين عامي 1933م و1936م. تضمنت هذه البرامج مراسيم رئاسية أو قوانين قام بإعدادها الكونغرس الأمريكي أثناء الفترة الرئاسية الأولى للرئيس فرانكلين روزفلت. جاءت تلك البرامج استجابة للكساد الكبير وتركزت على ما يسميه المؤرخون الألفات “جمع حرف ألف” الثلاثة وهي: “الإغاثة والإنعاش والإصلاح”. وتشير تلك النقاط الثلاث إلى إغاثة العاطلين والفقراء، وإنعاش الاقتصاد إلى مستوياته الطبيعية، وإصلاح النظام المالي لمنع حدوث الكساد مرة أخرى. وجميع تلك الخطوات لم تتمكن من حلّ مشاكل المجتمع الصناعي الى ان جاءت الحرب العالمية الثانية، وإطلاق المرحلة الأخيرة من عمليات “التعديل” وهي متعلقة بالتطوير السريع لاقتصاد الحرب والتخطيط الواسع الضروري من اجل الانتصار في الحرب، وحينها فقط استطاعت الولايات المتحدة استثمار القدرة الانتاجية للصناعة وخلق مجتمع ينعم بالرخاء يشير الى انه قد تم حلّ كل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في العالم المعاصر.
إذا قمنا بمراجعة ذلك التاريخ سنكتشف نمطاً معيناً واضحاً يؤكد ان سنوات ما بعد الحرب نقلت الولايات المتحدة الأمريكية الى موقع القيادة في الاقتصاد العالمي، وسيتعلم الأمريكيون خلال العقود اللاحقة كيفية استخدام الثروة الهائلة التي انتجها التصنيع لمواجهة المشاكل التي جاء بها التصنيع ايضاً. مع نهاية الحرب العالمية الثانية تحول بلد ريفي الى بلد يعيش مجتمعه داخل مراكز مدنية تحيط بها ضواحي يسكنها عمال محترفون من اصحاب الياقات البيضاء والزرقاء، والتحق التلاميذ بالمعاهد والمدارس عوضا عن المعامل او المناجم، وتمكنت الدورة الاقتصادية من امتصاص آثار الكساد الاقتصادي الكبير، كما ان شبكة الضمانات الاجتماعية وفرت الضمان الاجتماعي والحماية الضرورية للعمال والشغيلة وكبار السن والعاجزين من تقلبات الأوضاع في مجتمع يخضع لقوانين وحركة السوق.
شهدت الأعوام بين 1945 – 1990 ذروة المجتمع الصناعي، وتطوراً في عدد من البلدان التي تبنت نوعا من الرأسمالية المعدلة بالتنسيق مع الدولة. في الولايات المتحدة الأمريكية تحكمت شركات قليلة في عدد من القطاعات بينها الاتصالات والسيارات والطائرات والفولاذ اما في قطاع البنوك فكان يوجد العديد منها وتعمل ضمن قيود تحدّ من التنافس، وقد قدمت تلك الشركات لموظفيها وعمالها ضمانات ورواتب تقاعدية بالإضافة الى الدخل الذي يتقاضاه كل منهم من الضمان الاجتماعي. لقد ارتفعت تدريجيا الأجور والتعويضات كما اتسعت المرافق والخدمات التعليمية، وبشكل عام تمتع كل جيل بمستوى حياة أفضل من الجيل الذي سبقه. ولم تقتصر هذه التحولات على الولايات المتحدة الأمريكية بل شملت معظم العالم الصناعي وبعد الحرب العالمية الثانية لجأ الطرفان المتصارعان، الرٍأسماليون والعمال، الى عملية المساومة بدل الصراع.
وأخذت الحياة الدولية تسير بطريقة أكثر استقرارا داخل حدود الدول الصناعية الديمقراطية بينما استمرت التوترات فيما وراء الحدود ضمن الكتلة السوفييتية والدول النامية. ولكن تبين ايضاً ان الديمقراطية الليبرالية داخل البلدان الاقتصادية الصناعية المتقدمة لم تكن هي نهاية التاريخ كما زعم (فوكوياما) اثر محاولة الخصوم الأيديولوجيين والجيوسياسيين تدمير الأساس الليبرالي للعالم. كما لم تعد الجماهير تثق بقدرة التكنوقراط على ايجاد الاجوبة للتساؤلات الاقتصادية والاجتماعية عن طريق الاجراءات والطرق المألوفة، ويجد اليوم مواطنو الدول الديمقراطية حول العالم أنفسهم في نفس الوضع الذي عاش فيه جيل ما بعد الحرب.
المزيد من المعلومات
“الثورة الصناعية” و “الثورة المعلوماتية” تشيران الى عنصر التغيير الذي ارتبط بهما، حيث تجاوز التغيير ما كانت تطرحه الثورات السياسية، فالتغيير شمل العائلة والدولة، والشركات المساهمة وصفوف المدارس، وكذلك اماكن العبادة والقصور الملكية، الأجناس البشرية وعالم المال، لقد اصاب التغيير كل المؤسسات الاجتماعية وتبعثرت الأحزاب السياسية ثم أعيد بناؤها انطلاقاً من مقدمات جديدة وايديولوجيات سياسية جديدة، ان التغيير الذي يعصف اليوم يشبه التغيير الذي اكتسح العالم خلال الثورة الصناعية. واول موقع نستطيع من خلاله ان نتلمس فيه مفعول الثورات هو مكان او موقع العمل، فقد تقلصت وبوتيرة سريعة القوة العاملة الزراعية في الولايات المتحدة نتيجة الثورة الصناعية، وحصل نفس الأمر مع انهيار القوة العاملة داخل المعامل والمكاتب الادارية ذات الأشغال الروتينية، وهاتان الفئتان كانتا تشكلان نصف القوة العاملة في الاقتصاد الأمريكي حتى عام 1980 وقد حصل ذلك الانهيار نتيجة الأتمتة والعولمة وصارت الفئتان تشكلان 15٪ من الأشغال عام 2016.
ويبدو ان هذه التحولات التاريخية ليست سوى البداية. فالأعمال الثابتة والدائمة طوال الحياة كان وضعاً مألوفاً مع الاقتصاد الصناعي في مرحلة النضوج وهذا يختلف عما يجري في عالمنا المعاصر حيث تظهر الشركات بين ليلة وضحاها ثم تختفي بنفس السرعة، والآثار الناجمة عن الثورة المعلوماتية ستظهر بشكل تدريجي، أما الأفكار والمؤسسات المناسبة فستتشكل مع استعداد الأجيال القادمة لتعلّم كيفية استخدام المصادر والثروات التي يخلقها المجتمع المعلوماتي من أجل التعامل مع المشاكل التي ترافقه.