الصورة والقائد
– زهير الجزائري
من أين تبدأ التقاليد المتنامية لعبادة القائد.. اتبدأ من رغبة القائد نفسه والحاجة المتأصلة لإعلاء الذات على الآخرين، ام من تملق الجهاز المحيط المحكوم بتراتبية الخوف، ام من حاجة الجمهور الى مخلّص؟ ان الاجابة على ذلك تشبه الإجابة على سؤال البيضة اولاً، ام الدجاجة؟ لأن من الصعب التمييز بين التخويف الفوقي عبر القمع وبين الخوف التحتي المسبق. فالتخويف الموجه يطلب التملق كتعبير عن الرضوخ للسلطة. ولا يستطيع التملق في النهاية الا ان يصدق نفسه ويحيطها بوهم الحب. ومن اين للقائد وهو يرى هذه الجموع التي تمر امام منصة التحية هاتفة “بالروح بالدم” القدرة بل الرغبة في معرفة انها جمعت قسراً بالشاحنات، كما الخراف، لتعطيه وهم الحب…ولكن هل يستطيع التخويف وحده ان يوسع قاعدة التملق الى حد الملايين. من المؤكد ان ذلك للبعث بصورة خاصة لأنه لم يعتمد فقط على مؤسسة رسمية محدودة العدد والمرونة، انما أولا على المؤسسة الحزبية التي تغلغلت في كل مرافق الحياة. ولكن حتى لهذه المؤسسة التي زاد عددها على المليون فان تحقيق ذلك غير ممكن دون مقدمات تاريخية وشرط راهن… ومن الخطأ القول ان تقاليد عبادة القائد هي صناعة بعثية خالصة. فقد استمدها النظام من تقاليد عريقة تمتد من الدين، حيث يحيل الانسان العاجز عن مواجهة الطبيعة وجور المجتمع ارادته لإمام معصوم يكون وسيطاً بينه وبين الخالق، وكذلك تقاليد القبيلة التي تقوم على تعاقد أبدى بين الأفراد وبين الشيخ الذي سيتصرف نيابة عن الجماعة، كما تجد امتدادها في الحياة السياسية المعاصرة حيث تلعب شخصية القائد الحزبي دوراً يفوق الأفكار في ضمان لحمة القاعدة. يأخذ القائد مكان الأب في العائلة، له ينبغي ان يقدم الأبناء فروض الولاء والطاعة.
صناعة الرمز
لكن تكريس وحدانية وعصمة القائد تتم من خلال عملية تصنيع او اعادة تصنيع للخيال الشعبي، يتداخل فيها الخوف والاعلام تداخلاً معرفياً وعمليا بحيث يصعب إيجاد الخط الفرضي الفاصل بينهما. ففي خارج الأعياد والمسيرات، التي هي مناسبات للتصعيد، هناك عمل يومي دائم يهدف الى اشباع الأجيال الجديدة بالحضور الكلي للرجل الأوحد الذي يحيط بكل مجالات حياتها. وهناك تركيز مشدد على الصورة … وقد ورثت القيادة البعثية تقاليد الربط بين ما سماه سمير الخليل “الصورة والسلطة” في الحياة العراقية. فمن اوائل ما يفعله الانقلابيون عادة إزالة صور ممثلي السلطة السابقة. في صبيحة 14 تموز 1958 كانت تماثيل الملوك الهاشميين هي اول ما اسقطتها الجماهير المؤازرة للثورة للتعبير عن سقوط سلطتهم، وكانت صور عبد الكريم قاسم وتماثيله تزداد وتنتشر بمقدار ما تتنامى دكتاتوريته وتفرده داخل الحكم، ولأول مرة في عهده تقام للرئيس تماثيل في مداخل المدن وهو ما يزال حياً… وقد أظهر البعثيون اهتماماً مشدداً بالعلاقة بين الصورة والسلطة، فأصدروا منذ البداية قراراً يمنع أجهزة الاعلام من نشر صورة أي رئيس أو ملك سابق للتأكيد على وحدانية سلطتهم. وقد اهتموا بكيفية ظهور صورة القائد في أجهزة الاعلام، وما كانوا بحاجة لدراسة تشريح الصورة لمعرفة مدى تأثيرها على الجمهور، تكفيهم السليقة لمعرفة المزاج شبه الفلاحي الذي يقيس الأمور من مظهرها الخارجي. وكانوا معنيين أولاً بإظهار هيبة القيادة وقوتها. اعرف مصوراً فوتوغرافياً (بولص السناطي) كان يعمل في جريدة الجمهورية صور الرئيس (البكر) وهو يحي الجماهير، وبسبب خطأ فني ظهرت صورته في الصحيفة ويده مبتورة…في اليوم الثاني تم اخذ المصور من جريدته الى السجن. لم يرد المحققون، كما روى لي فيما بعد، ان يصدقوا ان ما حدث مجرد خطأ فني غير مقصود.. لذلك ركزوا في التحقيق على ما يقصده المصور بإظهار الرئيس مبتور اليد… بعد شهرين خرج بولص وهو مصاب بارتخاء الأعصاب نتيجة للتعليق المستمر من اليدين، وتوفي وهو لا يتجاوز الأربعين من العمر.
وقد لعبت التغطية الاعلامية المصورة دوراً اساسياً في تهيئة الأذهان لمشهد صعود (صدام)… فمن خلال عمله كمسؤول لمكتب الثقافة والاعلام اكتشف (صدام حسين) ان التلفزيون والصحافة لا تقل أهمية عن الجهاز الأمني السري في تهيئة الأذهان للدور القيادي الجديد. كان البكر بمظهره الكدر الكئيب يكره الظهور في الصور وينظر للمصورين بامتعاض لأن عينيه لا تتحملان الإضاءة الحادة ولأن الكاميرات تربكه. واذا كان ولا بد فانه يفضل دائماً ان تظهر صورته الجانبية خلال الحديث مع مقابليه … وقد ابدى ذات يوم امتعاضاً لأن صورته المعلقة في الدوائر تعود الى ما قبل 15 عاماً، لأن هذا سيجعله مثار سخرية الناس الذين يعرفون الفرق… ومع تناقص مسؤولياته الرسمية والحزبية اخذ يقضي وقتاً طويلاً في مشاهدة التلفزيون. الا انه كان يفضل حلقات التمثيلية الساخرة (تحت موس الحلاق) او مشاهدة حداء البادية (جبار سعيد عكار) على مشاهدة نفسه خلال الأخبار. وقد دفعت طلباته الكثيرة مدير الاذاعة والتلفزيون (محمد سعيد الصحاف) الى تزويده بواحد من اول أجهزة الفيديو في العراق ليشاهد برامجه المفضلة وهي مسجلة بينما يشاهد المواطنون لساعات طويلة زيارات النائب للأهوار وهو يتحدث لمواطنين لم يروا من قبل مسؤولاً بمستوى محافظ، او يزور المدارس ليوزع الحليب بنفسه على الأطفال، او يدخل بيوت المواطنين لتفقد ما هو موجود او مفقود في براداتهم. فمنذ علم 1977 بدأ العراق يعيش سلسلة اختناقات في السلع والخدمات الأساسية، وكانت الصحف الرسمية تعكس هذه الأزمات وعجز الأجهزة الإدارية عن حلها. ودائماً ارتبط الحل بحضور الرجل الثاني بنفسه الى موقع المشكلة.. يحقق بنفسه ويعاقب المسؤولين امام الناس عبر التلفزيون. ويقوم بسلسلة زيارات الى المناطق النائية.. من اهوار الجنوب وحتى مخيمات الرعاة في البادية، بل حتى ابعد قرية في كردستان.
وفي عام 1978 أزال صدام الحرج من وجود البكر وبدأ يختلى بعدد من الصحفيين والأدباء البعثيين ليروي لهم سيرته الحزبية قبل الثورة وبعدها … وعليهم ان يعكسوها في رواياتهم او كتاباتهم وفي البرامج التلفزيونية التي تتابع تحركاته المدروسة بين الناس بأكبر تأثير ممكن، بحيث يرتبط الحزب والثورة بالرجل الصاعد الذي فضل خلال الفترة الماضية ان يبقى منزوياً في كواليس العمل الحزبي. والخطاب الإعلامي هنا موجه للجيل الجديد من البعثيين الذي صعد مع صدام حسين أكثر مما هو موجه للبعثيين القدامى الذين يعرفون سنوات العمل السري وسنوات البناء الأولى.. هذا الجمهور المديني الحزبي أصبح حاله حال المواطن العادي يتلقى المعلومات من أجهزة الاعلام العادية، واولها التلفزيون، سيستقبل صدام باعتباره تجسيداً للبطل السياسي الرومانسي الذي يقتحم الموت ليطلق النار من رشاشته على (عبد الكريم قاسم)، والذي بقي، على خلاف كل رفاقه، زاهداً بالمناصب والوزارات، مختفياً في كواليس العمل الحزبي الخلفي. وهو الآن رجل الدولة اللبق الذي يعرف الحديث عن كل شيء.. من ندوات الانتاجية الى قضايا المكننة والتربية والثقافة والسياسة الدولية، الى قضايا الحصاد والبذار كأي فلاح يعرف مهنته.
وبالنسبة للمواطن العادي غير الحزبي سيظهر صدام من خلال أجهزة الاعلام بصفته تجسيداً معاصراً للخلفاء الراشدين والعادل الوحيد المحاط بأجهزة فاسدة. كل التراتبية الإدارية الطويلة والروتين المرهق في جهاز الدولة المتضخم وعجز الأجهزة الحزبية عن اختراق روتين الدولة ساعدت في ابراز صورة صدام كمستبد عادل في اذهان الناس. وفي وعي جيل لم يعرف حياة دستورية ومؤسسات فعلية لم تكن كلمة مستبد تشكل صفة لحاكم. فكل الحكام الذين عرفهم هذا الجيل والذي قبله مستبدون بدرجة وأخرى لدرجة ان الحاكم في ذهن الناس هو مستبد بالضرورة. والصفة تأتي لاحقاً بالمستبد (عادل او غير عادل؟). وقد أدرك صدام هذه المزية في واحدة من أحاديثه للشباب ” لكي تقود يجب ان يؤمن الناس الذين تقودهم أنك عادل حتى ولو كنت قاسياً حين يتطلب الأمر القسوة… وقد اثبتت التجربة انه حتى الناس الذين تقسون عليهم ويرفضونكم لأول مرة يحبونكم بعد ذلك عندما تكون القسوة مجردة من النوايا الذاتية، واحيانا يتقبلون جانباً منها حتى عندما تكون خاطئة”. ووراء هذه الشخصية (المستبد العادل) تراث طويل يمتد الى القصص المألوفة عن الخلفاء الراشدين الذين يعبرون أجهزة الدولة ويخرجون للناس متنكرين لتفقد مشاكل الناس ومعاقبة الظالمين بأنفسهم بقسوة وعلى الفور دون الرجوع الى القضاء الرسمي.. كل هذا الإرث جعل العادل المستبد شخصية مألوفة وأحيانا مستحبة، شرط ان يكون عادلاً ومنزهاً عن الخطأ.
ويبدي صدام حسين نفسه اهتماما مشدداً بالصور التي تنشر عنه.. فقبل ان يستلم السلطة كاملة من البكر كانت توجيهاته من خلال مكتب الاعلام تؤكد على وضع صورة البكر على اليمين وصورته على اليسار بحجم وارتفاع متساويين للدلالة على شراكة الاثنين… واذا كانت صورة الاول قد بقيت معلقة بقرار من صدام كتقدير معنوي لرجل سلم سلطته بهدوء، الا ان هذه الصورة اختفت بقرار آخر للتدليل على سلطة رجل واحد.. وقد روى لي موظف في دائرة رسمية الطريقة التي ازيلت صور البكر ” كنا نعرف بان هناك قرارا برفع صورة البكر، ولكن الامور تمت بتدرج سري.. ففي كل يوم نعود الى الدائرة نجد واحدة من صور البكر اختفت من احدى الغرف” بنفس الطريقة المتدرجة الهادئة ازيحت من مواقع القرار، واحياناً من الحياة العناصر المحسوبة على البكر في الجيش والدولة. وفي بداية رئاسته بقيت صورة النائب باللباس المدني.. ومع إزاحة العناصر المحسوبة على البكر استبدلت الصورة ذات اللونين الأسود والأبيض بصورته الملونة وهو بملابس عسكرية واضعاً يده على مقبض السيف.
ورغم مهامه الكثيرة كرئيس للدولة والحزب حص صدام على متابعة الصور والأشرطة الوثائقية التي ستظهر في أجهزة الاعلام. والحقيقة ان كلمة متابعة قاصرة عن وصف العملية التي تتم بها اخراج هذه الأفلام على طريقة الأفلام الروائية.. فهناك من يرسم مسبقاً صورة نمطية لبطل شعبي. وفي تجسيد هذه الصورة يحدث تواطؤ وضغط متبادل بين من يرسم الشخصية ويجسدها وبين الجمهور الذي سيشاهدها. وفي كتابه (الجمهورية) يصف افلاطون عملية التواطؤ هذه “فالجمهور الذي يشكو من افساد السفسطائيين يضم أكبر عدد منهم، اذ يربي الصغار والكبار والرجال والنساء على اكمل وجه ينسجم مع الطبيعة التي يود ان يراهم عليها. ويحدث ذلك عندما يجتمع حشد كبير في محكمة او معسكر ويعربون بالصراخ عن استحسانهم او استهجانهم لأي شيء يقال او يفعل… وفي مثل هذه الحالة كيف تنتظر ان تكون الحالة الذهنية للشباب، واي تعليم خاص يستطيع ان يضفي عليه القوة التي تمكنه من مقاومة ذلك السيل الجارف وعدم الاندفاع مع التيار، الن يكون حكمه على ما هو خطأ او صواب مماثلاً لحكمهم، الن يفعل ما يفعلون ويغدو مماثلاً لهم؟”… كل الخيال المتجمع من تقاليد الرضوخ القبلية والعائلية والدينية ستتدخل لصناعة البطل الذي ينبغي ان يكون المعادل الموضوعي لضعف الجماعة والأفراد فيها. وقد أدرك صدام هذه الحقيقة بقوله “العراق يحتاج الرمز اكثر مما تحتاجه موسكو لأن حالة التكوين جديدة وحالة التخلف عميقة ولأن في العراق طوائف واديان مختلفة.. اذن ينبغي ان يكون صدام حسين حصة لكل هؤلاء” ولذلك تحتم عليه وهو يدخل دور البطل ان يأخذ اولاً حاجة مشاهديه قبل ان يطابق الشخصية مع ذاته. وسيحدث على مستوى التجسيد تداخل وتقاطع في رسم شخصية هذا البطل.. بين التصور الديني السامي وبين المثال الشعبوي الأرضي، بين المثال النيتشوي الذي يرى البطل حدث نفسه وصانع تاريخه واحداثه الكبرى وبين التصور الاجتماعي الذي يرى القائد ابن مجتمعه واداة تاريخه.. وعلى المستوى السياسي يتداخل ويتقاطع التصوران القطري الشديد المحلية والمتكلم باللهجة الدارجة مع الرمز القومي المتعالي على الخصوصيات القطرية، البراغماتي الواقعي المرحلي والنمط التاريخي الذي لا يتصرف بوحي اللحظة، انما يضحي بالحاضر لصالح الرسالة التاريخية.. ويتجلى هذا التعارض من خلال اسلوبين في سلوك القائد مع حاشيته ومع جمهوره: الأسلوب الاول يفترض ان الجمهور مختلف ومتنوع، ولذلك ينبغي للرمز الشعبوي ان يتوجه لكل قطاع حسب حاجاته.. فللفلاحين الذين عاشوا حياتهم في الذل تحت جور الاقطاع والفقر والجهل سيبدو صدام واحداً منهم وقد علقت صورته امام الجمعيات الفلاحية ممسكاً بالمسحاة مرتديا دشداشة فلاح فقير. وللجنود المعزولين في جبهات الموت سيقدم صدام مرتديا خوذة مقاتل منهم. وفي مدخل الجامعة المستنصرية سيظهر مرتدياً الروب الجامعي، بينما تظهر صورته في مدخل مدينة النجف ممسكاً بشباك الضريح كأي زائر خاشع. التقسيم السابق للاختصاصات في الدولة يضمحل بمقدار ما يغطي المظهر المرئي على الانجازات الحقيقة الملموسة، وتندمج الفواصل الفعلية في صورة رجل واحد صالح لكل الاختصاصات وفوق الاختصاصيين.
وحتى عشية الحرب على الكويت كان التركيز على زعامة الامة العربية، والخطاب السائد هو الخطاب القومي عموما رغم الاستعارات الإسلامية المضافة لمواكبة المد الديني . وكان صدام يستشهد حين يسأل عن مثاله بين القادة ب” اجدادنا العظام علي وعمر وخالد بن الوليد”. (٦) وقد شكل هؤلاء الأجداد العظام مجرد مثال عربي ينبغي ان يحتذى بصفاته الخلقية … بعدل عمر، وزهد علي، وشجاعة خالد بن الوليد، وكانت قيادة صدام القومية مطروحة لمواجهة الطموح الايراني، الذي ينطوي في جوهره على قومية فارسية، لزعامة الأمة الإسلامية الأوسع، ومنها العالم العربي. ولكن بعد احتلال الكويت ودخول الغرب طرفاً مباشراً اخذت المواجهة في الشارع طابعاً اسلامياً في مواجهة الولايات المتحدة والغرب المسيحي. ولذلك استعار صدام خطاب عدوه السابق (الخميني) وبدأت العناصر الدينية والغيبية المضمرة اصلاً في الخطاب القومي والعفلقي تبرز على حساب العناصر العلمانية التي دخلت على الخطاب البعثي منذ الخمسينيات، فبدل القائد الرمز حل لقب (الرئيس المؤمن) الذي يفتتح كل خطاباته “بسم الله الرحمن الرحيم” وأضاف كلمة “الله اكبر” الى العلم العراقي. ولم يعد الرئيس المؤمن يستمد مشروعية قراراته من العقيدة البعثية ولا من نيابة الشعب، انما من رؤى نبوية.. ففي خطاب القاه امام القادة الميدانيين في المحافظة السابعة عشر قال بانه في السابق كان “أتخذ القرار ثم اتوكل على الله”، أي ان هناك قرار انسان يطلب من الله ان يكون في عونه. الا ان الأمر اختلف في قرار غزو الكويت ” فهو يكاد يأخذه جاهزاً من الله”. (٧) وفي هذه الحالة لا يتصرف (القائد) بإرادته ككائن، انما بفعل وحي الهي يأتيه في صيغة أحلام ورؤى. وهناك مقدمات لمثل هذا الادعاء بالإمامة، ففي شجرة العائلة المعلقة في متحف الحزب يأتي تسلسل صدام السادس والأربعين بعد علي بن ابي طالب وأولاده الحسن والحسين، وبينهم الملوك الهاشميين. ويراد بهذا التناسب الايحاء بان القائد الحالي هو امتداد للخليفة الراشد، وانه لا يستمد مشروعيته من الحزب، ولا من الشعب، وانما من الله الذي اصطفاه للنيابة عنه في الأرض. من السهل المزج بين كل هذه التصورات من خلال الوصف المكتوب للبطل النموذجي، لأن الكلمة المتولهة الشعرية تستطيع ان تتملص من معادلها الواقعي وتبقي المديح منفصلاً عن صورة الممدوح الواقعية. ولكن تجسيد هذا البطل بالصورة، وبصورته هو، وفي الفلم الوثائقي يحتاج الى عمل معقد … وتجري عملية الإخراج ضمن حلقة ضيقة من الحماية الشخصية للقائد.. فقبل زيارة اية مدرسة او بيت او مؤسسة او منطقة تذهب عناصر من الحماية لاستطلاع المنطقة وتطويقها امنياً… ومع الحماية مصوّرون خاصون لا يرتبطون بأجهزة الاعلام، انما بالمكتب الصحفي للقائد.. مع الجهاز الأمني الذي يطوق المنطقة مسبقاً سيهيئ المصورون مكان الحدث بطريقة اخراجية بحيث يبدو كل شيء عفوياً ومفاجئا، بل وسيختارون من المواطنين العاديين الممثلين الثانويين الذين سيلتقيهم البطل. وعلى الممثل بعد ذلك ان ينفصل عن ذاته الحقيقية ويدخل الدور ليرى نفسه بعين مشاهديه، وفي الحقيقة تصوره عن مشاهديه. وعملياً لا تمثل الحقيقة المفترضة بكاملها كما في مسرح يتواجد فيه الجمهور والممثل معاً وجها لوجه . فالضرورات الأمنية تحيط تحركات الرئيس بسرية مطبقة وتمنع اقتراب الجمهور من القائد الى مسافة محسوبة بمدى الطلقة. ولذلك تصعب رؤية وجهه الحقيقي. ولا يبقى مجال للمشاهدة غير الشاشة ومن خلال الفلم المصور الذي يتيح اعادة تصنيع أخرى للحقيقة. وبعد ترتيب المشاهد الحية تجري عملية التقطيع الفلمي بإشرافه المباشر او مستشاره الإعلامي ليحذف كل ما يخل بتلقائية الحدث وهيبة البطل الشعبوي .
مثل هذا الإخراج يحدث في أجهزة الاعلام الغربية، خاصة خلال الحملات الانتخابية. لكن تعددية الرأي تنعكس في تعدد زوايا النظر للرئيس او القائد السياسي.. فهناك من سيظهره متجهماً حزيناً للتدليل على حيرته إزاء مأزق الحرب الفيتنامية، وهناك من سيظهره عجوزاً تعباً للتدليل على نهاية حكم يوشك على الموت، بينما سيظهر في أجهزة اعلام أخرى ضاحكاً بين أفراد عائلته للتدليل على ثقة السلطة بالنفس… في أجهزة الاعلام الأحادية لن يرى المواطن ابدا القسم المحذوف من صور الرئيس… فلأول مرة أرى التجاعيد في وجه الرئيس من خلال صحيفة اجنبية، اما المواطن الذي لن يتاح له الاطلاع على الصحف الممنوعة فانه سيرى الرئيس من عيني المخرج فقط. وفي عام 1980 كان موكب الرئيس في طريقه الى اجتماع طلابي، وقبل دخول الجامعة اعترض الموكب شخص نزل فجأة من الرصيف، الحماية المتأهبة أطلقت النار على الشخص بتلك البراعة المتمرسة لمواجهة طارئ كهذا، وبعد توقف الرصاص اكتشفوا ان الرجل القتيل المدد على الأرض وسط بركة دم هو شيخ عجوز أراد ان يقدم للرئيس عريضة. خلال دقائق ازيحت الجثة من المشهد لتسيير الأمور كما خطط المخرج. وفي نفس اليوم عرض التلفزيون مشاهد من لقاء الرئيس بالطلبة مداعباً ضاحكاً ومستذكراً معهم حياته الطلابية كأن شيئا لم يحدث قبل دقائق… وفي بلد لا يتيح لأجهزة الاعلام ان تتناول وجها مختلفاً من الحقيقة، لن يرى المشاهدون ابداً المشهد المحذوف من الزيارة، انما سيظهر خبر عنه بعد ستة اشهر في نشرة معارضة تصدر في المنفى. وعدا ذلك لن يرى المشاهدون غير الصورة المصنعة بحيث تدغم الحقيقة الموضوعية وتختفي تماما وراء الحقيقة المفترضة التي ستصنعها أجهزة الاعلام . تماما كما في غرفة من المرايا يمثل الرئيس نفسه ويرى نفسه قبل ان يراه مشاهديه ويرسم دوره ويراه بعيون مشاهدين يصنعهم من فرضيته.. كل الصور التي تخرج عنه تصور في مكتبه، وهو الذي يقرر ما يبرز وما يحذف منها، وتذهب من مكتبه الى الصحف والتلفزيون. وكثيرا ما كانت هذه الصور تستبدل في اللحظات الأخيرة بصور أخرى وقد أجريت عليها تعديلات حساسة جداً لأن في الصورة شخص ثانوي أطول من الرئيس، او يرتدي بدلة فاتحة تجذب النظر عن الرئيس او ان واحدا من الحماية ملتفت في حركة تشتت انتباه المشاهد بعيداً عن الرئيس وهو يقص شريط الافتتاح .
وقد تجلى هذا الاهتمام في كيفية تدخله في اخراج فيلم (الايام الطويلة) عن دوره في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم.. فقد أراد المخرج المصري (توفيق صالح) ان يعطي للبطل بعضاً من الضعف الإنساني، مظهراً الممثل الذي يؤدي دور صدام حسين يتأوه من الألم حين يقوم الطبيب بإخراج الرصاصة من ساقه بدون بنج.. قبل عرض الفيلم على الجمهور شاهد صدام حسين النسخة وابدى استياءه من هذه اللقطة وامر بإحضار الطبيب الذي اجرى له العملية، فكان جواب الطبيب ان صدام الحقيقي لم يبد خلال العملية اية علامة الم، بل انه كان يحث الطبيب المتردد على ان يقوم بالعملية بدون بنج. وبناء على شهادة الطبيب حذفت تلك اللقطة للحفاظ على هيبة المثال.. فالرمز ينبغي ان لا يشبه البشر الآخرين في ضعفهم.. اما الممثل الذي قام بدور صدام حسين فقد كان هذا دوره الأول والأخير في السينما، لأن من يمثل صدام حسين ينبغي ان لا يمثل أدوارا أخرى اقل أهمية .
حصار الكم
وقد اعتمدت الأجهزة الحزبية والإعلامية على الانتشار الكمي لصور صدام وديمومة وجودها بالتوافق مع تغلغل سلطته في كل شؤون الحياة، ومع تنامي قوته وفردانيته وحضوره الدائم في الوعي الجمعي.. فثلث مدة البث التلفزيوني البالغ 12 ساعة يومياً على القناتين الأولى والثانية مكرس لتغطية نشاطات القائد وأحاديثه التي تعاد بالكامل خلال النشرات الإخبارية الأربع، او لإظهار صوره مع الأغاني المكرسة له او لحروبه. ومن خلال تتالي اخباره على طول النشرات لا يتقسم اليوم الى ساعات ودقائق، انما الى دورات إخبارية مصورة يعيش خلالها المشاهد كل لفتة وكلمة يقولها الرئيس. لا يسمح للمذيع او المعلق بعد تقديم الخبر ان يخترق الشريط الاخباري المصور عن الرئيس. وعلى الرئيس وحده تركز عدسة المصور عندا يقف امام الحشد في الشرفة ولن نرى الحشد الا وهو امامه او راكضاً خلف سيارته المسرعة، فالناس هنا قد صوروا لا لذاتهم انما ككم عددي مهمته ان يوضح حقيقة تخص الرئيس: مدى حبهم له. وعندما يتحدث الرئيس في اجتماع سيكون وحده موضوع الصورة، هو الذي يتحدث والبقية يصغون، واذا تحدث آخر فستستمر صورة الرئيس بالظهور وهو يصغي اليه او يسجل الملاحظات في دفتره. وفي شهادة محفوظة لدى الكاتب يروي المواطن ن. ب. 32 سنة ” عندما رأينا الرئيس يضحك بأريحية موجهاً كلام الى حسين كامل خلال واحد من الاجتماعات قدرنا ان هذا الرجل صاعد بالتأكيد.. ولم يخب تقديرنا”.
وتحتل صورة الرئيس ثلاثة أعمدة من وسط الصفحات الأولى في الصحف اليومية والاسبوعية حتى لو لم يكن هناك أي خبر عنه. انها تعبير عن استمرارية حضوره، فغيابه عن أجهزة الاعلام ليوم او يومين يحيل المواطن مباشرة الى تأويلات حول صحته او صحة سلطته. وتصدر اثنين من مقولاته اعلى الصفحة الاولى، ولقد اخترت لا على التعيين عدداً من جريدة الثورة، وهو العدد المؤرخ في 1-8-1984، فوجدت ان اسم صدام مع ألقابه تكرر 147 مرة في صفحات الجريدة، وتكررت صورته 27 مرة. وفي نفس العدد اخبار عن إزاحة الستار عن خمسة جداريات جديدة تحمل صورته نصبت في مداخل مدن ومؤسسات.. وهناك خبر عن افتتاح دورة صدام للمصارعة تقام في قاعة صدام الرياضية يشرف عليها مرافق صدام (صباح مرزه) نيابة عن ابن صدام رئيس اللجنة الاولمبية عدي صدام.. وتحتل جداريات تحمل صورة صدام بالحجم الكبير كل مرافق الحياة اليومية : مداخل المدن والقرى وحتى المحلات، الساحات العامة، الشوارع العامة.. وفي شارع الرشيد الرئيسي والتاريخي توجد صورة لصدام على كل عمود. ولا تتجاوز المسافة بين عمود وآخر الستة أمتار. وفي هذا الشارع المزدحم بالمارة والسيارات يشاهد المواطن صورة المواطن كل دقيقة، اما في بقية الشوارع فتتراوح المدة بين الأربع والخمس دقائق… وتوجد جدارية في مدخل كل دائرة رسمية ومقر كل منظمة وجامعة ومدرسة. وهناك صور اصغر في غرفة كل موظف وفي كل صف وكل دكان على شارع عام. وتوزع صوره من قبل المنظمات الحزبية لتعليقها في غرف الجلوس في كل بيت . فبوجود الصور أولا يقاس ولاء الناس للقائد وللحكم ، وبغيابها تقاس نواياهم (السيئة) . وقد طبعت صوره على الحاجات الأساسية للناس مثل اغلفة الكتب المدرسية وحقائب المدارس ، في باصات النقل وفي سيارات الأجرة ، مطبوعا على الساعات اليدوية والحائطية والمنضدية ، صحون الطعام والعملة وطوابع بريد .. ولا شيء مما يملكه الناس الا ويمت اليه .
ومن المضحك التصور ان هدف هذا التكرار اعلام الذين لا يعلمون في بلد وصلت فيه صور القائد ابعد قرية في الهور. الهدف الأكيد هو التذكير به في كل لحظة وعدم ترك اية فسحة للنسيان. وعادة ينتج التكرار معادلاً عكسياً في وعي المواطن الذي يرفض هذا التطويق الخانق. وفي غياب البدائل يلجأ الى اسقاط هيبة المثال المفروض عليه بواسطة النكتة. وقد روى لي المواطن ب. ن. نكات شعبية ذات دلالات عميقة مثل” مرة شوهد الرئيس وهو في حمامه الخاص ينظر لجسده في المرآة وهو يغني: العزيز انت، انت”. او: فتح الولد الذي لم يستطع النوم بسبب الأرق التلفزيون في الساعة الثالثة صباحاً وفوجئ بصورة الرئيس وهو يغط في النوم في سريره “… ولكن، وسواء احب المواطن الرئيس او كرهه، فان التكرار يثبت الصورة في لا وعيه. وقد نشرت جريدة (العراق) في 18 تشرين 1984 قصة ذات دلالة عن تأثير هذا التكرار في لا وعي فتاة اسمها غادة جلال الدين الرومي صدمتها السيارة اثناء عبورها الشارع، وخلال خضوعها للبنج كانت تكرر في لا وعيها (صدام بابا صدام). فقد كون التكرار شكلا من المجال المغناطيسي حول الجيل الشاب الذي صحا على هذا الحضور الكلي لرجل واحد وقائد واحد. وبالكم المتكرر يحدث نوع من الاغتصاب حتى دون ان يكون هناك حب، انه نوع من فرض قوة يطلب تواطؤا داخليا حين يتعذر الفكاك منه:” يصعب علي – يقول ن. ب. في شهادته – ان اذكر اسمه عارياً دون القابه وليس باستطاعتي ان أقول كلمة رئيس دون ان تأتي صورته هو بالذات في مخيلتي”.
من خلال الكم والديمومة تطابقت الصورة في النهاية مع سلطة صاحبها… لذلك كان تشويه الجداريات الكبيرة التي تحمل صورته النشاط الأبرز لمعارضي سلطته، فتشويه الصورة يهدف الى اسقاط رهبة سلطة صاحبها في نفوس الآخرين. وبالمقابل يعاقب الفاعل حسب التوجيهات الأمنية معاملة المتآمر الفعلي ضد هذه السلطة، بإطلاق النار فورا على كل من يشاهد وهو في حالة تلبس عملية تشويه هذه الصور.. هذا الحكم الفوري يعادل عقوبة مطلق النار على صاحب الصورة… ولست صدفة ان اول ما فعله الجنود العائدون من الهزيمة العسكرية عام 1990 هو إطلاق النار على صورة صدام في البصرة.. فهذه الرصاصات كانت البيان الأول الذي يعني ان حاجز الخوف الذي تجسده هذه الصور المحفورة في ذهن المواطن قد سقط، وان الانتفاضة قد بدأت… وبالمقابل فان الدبابات الحكومية التي استباحت المدن المنتفضة دخلت وهي تحمل صور صدام على فوهات مدافعها، فصاحب الصورة هنا هو رمز قوة بمقدار ما هو مطروح كرمز وحدة. وكان اول عمل بعد استتباب السلطة في المدن هو تشكيل لجنة برئاسة وزير الاعلام (لطيف نصيف جاسم) لترميم صور “القائد المنتصر” قبل ترميم الجسور وشبكات المياه. وقد ترافق ذلك بالتأكيد مع اعادة سطوة الجهاز الأمني الى الشارع