بقلم مايكل جرسون
واحد من أكثر الأشياء غير العادية حقا حول السياسة الأمريكية الحالية، ومن أكثر التطورات غير العادية في التاريخ السياسي الحديث – هو التمسك المخلص للمحافظين الدينيين بدونالد ترامب. لقد فاز الرئيس بأربع أخماس أصوات المسيحيين الإنجيليين البيض. كان هذا اعلى مستوى تأييد من أي وقت مضى، وفاق ما حصل عليه رونالد ريغان أو جورج دبليو بوش، الذي يعتز بكونه انجيلي مخلص.
ان خلفية ومعتقدات ترامب هي أبعد ما تكون عن الانسجام مع النماذج المسيحية التقليدية للحياة وتأدية الدور القيادي فيها. مواقف ترامب السياسية السابقة (كان يؤيد فيما مضى حق المرأة في الإجهاض الجزئي)، وشخصيته (كان يتفاخر بالاعتداء الجنسي على النساء)، وحتى لغته (استخدم عبارة “فرج ” و “شرج” في الخطاب الرئاسي) وربما سيدفع بالمحافظين ليطردوا الارواح الشريرة. انه الشخص الذي نشر بشكل فاضح مغامراته النسائية، وقدم تعليقات جنسية، مثيرة للقلق، حول ابنته الكبرى، كما انه يفاخر بحجم قضيبه اثناء النقاش. وبحسب ما ورد، قام محاميه بترتيب دفع مبلغ 130 ألف دولار لنجمة إباحية لمنعها من الكشف عن علاقتها المزعومة معه. لكن المحافظين المتدينين الذين كانوا في السابق ينطوون تحت معايير العروض السينمائية العامة (PG-13) يلتهون الآن بتذوق عروض من عيار: الدخول غير مسموح لأقل من 17 عاما، انهم يبتعدون بسرعة عن كتاب الفضائل الديني.
يميل المؤيدون لترامب إلى التخفيف وتجاهل الوساوس الأخلاقية حول سلوكه، كأولئك الذين يتحسسون من “أسلوب الرئيس”. لكن المشكلة تكمن في الجوهر غير المسيحي الواضح للقيم التي يحملها. إن مذهب ترامب المادي الصارم الرافض لتقديم اي اعتذار – حيث يعتبر النجاح المالي والاجتماعي معادلا للإنجاز الإنساني والقيم البشرية – هو نفي للتعاليم المسيحية. إن قَبْلَيته وكراهيته لـ “الآخر” تقف في معارضة مباشرة لأخلاق المسيح الراديكالية حول حب الجار. ان عبادة ترامب للقوة واحتقاره لكل “الخاسرين” يلتقي مع نيتشه أكثر من المسيح. حين يقول طوبى للمتكبرين. طوبى لقساة القلوب. طوبى للعار. طوبى لمن جاع وعطش بعد ان نال الشهرة.
وفقا ل (جيري فالويل الابن)، وهو ابن قس أمريكي مسيحي أصولي ومؤسس منظمة “الأغلبية الأخلاقية” وكانت لديه آراء متشددة في مواضيع مثل المثلية والإجهاض والعلمانية، ومواقف مؤيدة لدولة إسرائيل ومعادية للإسلام، حيث وصف الرسول محمد بال “إرهابي” وطالت الهجمات الكلامية التي أطلقها (فالويل) خلال مشوار حياته الطويل قطاعات واسعة من ليبراليين ويهود ومسلمين وسود ومثليين ونشطاء حقوق المرأة وتنظيمات للحقوق المدنية. الإنجيليون اليوم “وجدوا رئيس أحلامهم”، وهذا يدل على الطبيعة الحالية للأحلام الإنجيلية.
صحيح بأن الأصوات الإنجيلية كانت عاملاً حاسماً في انتصار ترامب الذي كان حتى الآن مستبعدا. وصحيح ايضا ان هناك العديد من الأفراد، والعديد من الأسباب، والعديد من الجماعات التي تعهد ترامب بالدفاع عنها، ثم سرعان ما تم تهميشها أو التضحية بها خلال فترة رئاسة ترامب القصيرة، لكن تواصل ادارته مع الإنجيليين البيض بقي ثابتًا.
لقد وجد الزعماء الدينيون المتحالفون مع ترامب ان لهم باباً مفتوحاً في البيت الأبيض -او كما يسميه (ريتشارد لاند)، رئيس المعهد الانجيلي الجنوبي، “صلاحية غير مقيدة بالدخول”، حيث يحتشدون للدفاع عن الإدارة عندما تقتضي الحاجة. “من الواضح أن قصة التواطؤ مع روسيا، هراء”، هكذا تشرح راعية الكنيسة (باولا وايت-كاين)، والتي لا يُعرف عنها الكثيرون بانها خبيرة قانونية ومختصة بالأمن الإلكتروني. كما ان القس (دافيد أرميا) كان يقارن كل من (جارد كوشنير وإيفانكا ترامب- صهر ترامب اليهودي وابنته ايفانكا-) بيوسف ومريم العذراء: ” وكأن الرواية تريد ان تقول إن الله يستخدم زوجين يهوديين شابين لمساعدة المسيحيين”.
ويبدو أنه لا يوجد حد لما سيتحمله بعض القادة الإنجيليين، فشخصيات مثل (فالويل) و(فرانكلين جراهام) اقتفوا باهتمام ونشاط خطوة ترامب لدعم القاضي (روي مور) في انتخابات مجلس الشيوخ في ألاباما في ديسمبر، ان هؤلاء يعتبرون زعماء دينيون قضوا حياتهم الكاملة في نشاطهم الديني وهم يتحسرون على الانحطاط الثقافي والأخلاقي، ومع ذلك فقد اندفعوا علنا لتأييد المرشح، (روي مور)، والذي اتهم مرارًا وتكرارًا بسوء السلوك الجنسي، بما في ذلك مع فتاة تبلغ من العمر 14 عامًا.
في شهر يناير، أشارت التقارير إلى أن ترامب كان قد وصف (هايتي) و دول أفريقية اخرى على أنها “دول (خرائية)”، فهرع القس (روبرت جيفريس) للدفاع عنه، وكتب: “بصرف النظر عن المفردات المنسوبة إليه ، فإن مشاعر الرئيس ترامب تصيب الهدف”. وبعد أن أظهرت تقارير أن محامي ترامب سرّب أموالاً من تحت الطاولة لنجمة الاباحة الجنسية (ستورمي دانيلز) لكيلا تقوم بإفشاء مزاعم عن اسرار علاقة ترامب الجنسية معها، مما حدا بالقس (جراهام) للاندفاع مدونا بحماس على موقعه ليؤكد “حرص ترامب على القيم المسيحية.” وهو ما فعله (توني بيركنز)، رئيس مؤسسة “مجلس أبحاث العائلة”، حين أصر على وجوب منح ترامب فرصة اضافية لكي يتجاوز خياناته الزوجية السابقة. لا يستطيع المرء تصور مدى انفجار الغضب نحو الرئيس باراك أوباما إذا كان قد اتهم بجرائم مماثلة.
لقد تحولت القناعات الأخلاقية للعديد من قادة الكنيسة الإنجيلية الى مجرد وظائف تحدد هويتهم الحزبية، وهذه التحولات ليست مواقف عفوية عابرة فقط، بل فساد شامل، لقد أعمتهم القبلية السياسية والكراهية لخصومهم السياسيين، ويعجز هؤلاء القادة عن رؤية كيف انهم بذلك يقوّضون الأسباب والدوافع التي اعتبروا انهم كرّسوا حياتهم في سبيلها. لقد كتب الراعي الإنجيلي البارز (تيم كيلر) – وهو ليس من مؤيدي ترامب – في صحيفة (نيويوركر)، كان تعبير (الإنجيلي) يطلق على الشخص الذين يتصف بالأخلاق العالية، اما الآن فهو مرادف لكلمة(منافق) وأصبح هذا التعبير شائعا اليوم مع ازدياد المرجعيات السياسية التي تدعي الأخلاق العالية” لذا، فلا عجب أنه في العام الماضي، اخذت “زمالة (برنستون) التعليمية الإنجيلية” Princeton Evangelical Fellowship ، وهو مركز لاهوتي عمره 87 عامًا، باسقاط حرف “E” من اسمها، لتصبح “زمالة برنستون المسيحية”: بعد ان اقترن هذا المصطلح في ذهن الطلاب بإيديولوجية سياسية محافظة. في الواقع، هناك عدد من الإنجيليين، اصحاب الحرص، قد اخذوا يبتعدون عن هذه الكلمة (الانجيلية) لأسباب مشابهة. وعلى الرغم من صعوبة تعريف هذا المصطلح، إلا أنه يشمل بالتأكيد التجربة الدينية لجماعة “المولودون الجدد Again Born، وكذلك الجماعات الداعية الى تشديد الالتزام بسلطة الكتاب المقدس، والجماعات التي تدعو من أجل تثبيت القوة الأخلاقية لقيمة الفداء عند يسوع المسيح.
ما الذي حول جماعة كان لها اعتبارها النسبي وحركتها المؤثرة الى أقلية مهمشة ومتلهفة تسعى إلى الحماية السياسية تحت جناح رجل مثل ترامب، الشخصية الأقل مسيحية – في المزاج والسلوك والمعتقد الواضح – ممن وصلوا الى كرسي الرئاسة بحسب الذاكرة الحية.
كلية “ويتون -Wheaton ” التي تبعد 40 كم عن شيكاغو، كان قد أسسها الإنجيليون المطالبون بإلغاء الرق في عام 1860 تحت قيادة (جوناثان بلانشارد)، وهي شخصية لها رمزيتها بين الإنجيليين الذين يقطنون في شمال البلاد، في منتصف القرن التاسع عشر. كان بلانشارد واحدا من جيل الساخطين المتطرفين الذين أنتجتهم (الصحوة الكبرى الثانية)، وهو إحياء ديني كان قد لامس حياة ملايين الأمريكيين في النصف الأول من القرن التاسع عشر. لقد كان قسيسا من اتباع الكنيسة (المشيخية)، ومؤسس للعديد من الصحف الراديكالية، ومحرضا ضد العبودية. في السنوات التي سبقت الحرب الأهلية، كان هناك تلازما عاما بين الانتماء الأخلاقي والاهتمام بالعدالة الاجتماعية بين الإنجيليين الشماليين. كانوا يكافحون من اجل الاعتدال، ومن اجل المعاملة الإنسانية للمعوقين عقليا، وإصلاح السجون. لكنهم كافحوا بشكل رئيسي من أجل انهاء العبودية. ولقد رحبت كلية (ويتون) بكل الأمريكيين من أصل أفريقي والطلبة الاناث، وتميزت بوجود محطة للسكك الحديدية تحت الأرض، كانت تحتمي فيها افواج الهاربين من حياة الرق، فالعبيد الهاربين كانوا بمأمن تام داخل مبنى الكلية.
شرح بلانشارد معتقداته في عام 1839ضمن خطاب ألقاه في كلية (أوبرلين – Oberlin College)، بعنوان “دولة المجتمع المثالية “. كان يعظ بأن “كل قسيسّ حقيقي يمثل المسيح هو مصلح عالمي، ومهمته إلى أقصى حد ممكن، هي إصلاح جميع الشرور التي تضغط على هموم البشر”. واعتبر ان ملكية العبيد ليست شأنا فرديا، بل هي خطيئة اجتماعية” وأضاف: “جميع الرجال متساوون، لأنهم يحملون بالتساوي نفس الدم “. خلال هذه الفترة، كانت الإنجيلية متطابقة إلى حد كبير مع التيار البروتستانتي، وتباين الإنجيليون على نطاق واسع في معتقداتهم المذهبية، وفي السياسة. كان الإنجيليون يميلون إلى اعتبار ولاية (نيو إنغلاند- New England) ثم البلد بأسره في حالة هوية واحدة مع إسرائيل التوراتية. ثم تتالت المواعظ التي كانت تصف أمريكا كمكان فريد تم تخصيصه للأغراض الإلهية. قال (ليمان بيشر Lyman Beecher)، القسيس الإنجيلي، “لقد كان العالم بحاجة الى ضرورة وجود امة حرّة، لتنفخ في البوق وتوقظ العالم ولتمسك بمشعل الضوء”. (كانت ابنته هارييت بيتشر ستو هي كاتبة الرواية المعروفة “كوخ العم توم”). وكان التمسك بالفضيلة يعتبر مسؤولية جماعية، واولها إنهاء الرق، دون ان يؤدي ذلك الى تأييد للثيوقراطية، او مخاطر العلاقة الوثيقة مع القوة الدنيوية، ويلاحظ المؤرخ (جورج مارسدين) في كتابه “الأصولية والثقافة الأمريكية” ان الانجيلية في منتصف القرن التاسع عشر ، كانت هي التقليد الديني السائد في أمريكا، وكان موقفها الاجتماعي يرتبط بدعوتها الإلهية، حيث يتوجب الترحيب بكل عنصر يؤدي الى التقدم والأمل في المستقبل، ولكن بعد خمسين عاما وفي مطلع القرن العشرين أخذت الكنيسة الانجيلية تفقد الأرضية الفكرية والاجتماعية على كل الجبهات، ثم بعد مرور خمسة وعشرين سنة على ذلك، أصبحت نكتة وطنية.
لقد ادت سلسلة من التطورات الفكرية الهامة الى فتح هوة بين الأنغليكانية وثقافة النخبة، والتي بدأت بحركة الانتقادات العليا للكتاب المقدس ـ وهي حركة علمية من أصول ألمانية، اختارت المصادر البشرية لتفسير وشرح النصوص الدينية القديمة ـ فأثارت تساؤلات حول الجذور والدقة التاريخية للكتاب المقدس الذي شكل المصدر النهائي للسلطة الإنجيلية. في نفس هذا الوقت، بدأت نظرية التطور بتقديم حساب جديد للأصل البشري، مما جعل المدافعون عن التطور، وحتى أولئك الذين أنكروه بشدة، الى وضع هذه النظرية كبديل للحسابات الدينية – وفي العديد من الحالات -كبديل للإيمان المسيحي نفسه.
سعى التقدميون الدينيون إلى ايجاد أرضية مشتركة بين الإيمان المسيحي والعلم الجديد، وحاول كثيرون الجمع بين إيمانهم المسيحي بالإنجيل وبالإصلاح الاجتماعي – بحيث أخذ الإصلاح الاجتماعي مكان المجيء الثاني للمسيح.
وعلى النقيض من ذلك، تمرد المحافظون الدينيون على استراتيجية (حسن الجوار) هذه بشنّ سلسلة من عمليات إطلاق النار والمحاكمات البدائية التي تهدف إلى الاحتفاظ بالسيطرة على المعاهد الدينية. (خسر عم (وودرو ويلسون -الرئيس الأمريكي)، (جيمس) وظيفته في كلية كولومبيا اللاهوتية لقبوله بان التطور يتوافق مع الكتاب المقدس). لكن هذه التكتيكات جاءت بنتائج عكسية لما كان يتوخاه المحافظون الدينيون، اذ انتشر تأثير الافتراضات العلمية والثقافية الحديثة داخل المعاهد والكليات والجامعات وكان زحف العلم هذا تلبية للضرورة وحاجات المستقبل. وفي مواجهة هذا التقدم نشرت مصادر الأرثوذكسية الدينية سلسلة من الكتب تحت عنوان “الأصول او الأساسيات”. ومن هنا جاء مصطلح الأصولية التي تحمل بداخلها روح النقمة فجاء ردها بمثابة الفعل اليائس.
احتضنت الأصولية الآراء الدينية التقليدية، لكنها لم تقترح العودة إلى الأنغليكانية القديمة، وبدلا من ذلك حاولت ان تستجيب للحداثة بطرق ادت الى القطيعة مع ماضيها، وفي رد الفعل ضد مفهوم التطور، أصبحت مناهضة للعلم في توجهها العام، بل وفي ردة الفعل ضد ا(لإنجيل الاجتماعي) ، أصبح ينظر إلى مفهوم العدالة الاجتماعية كفكرة ليبرالية خطرة. شكلت هذه النقطة الأخيرة ما أسماه بعض المختصين “الانقلاب العظيم”، الذي حدث بين حوالي 1900 إلى 1930. “فأصبح كل اهتمام تقدمي من جهة المجتمع”، كما يكتب (مارسدن)، “سواء كان سياسيًا أو خاصًا، موضع شبهة بين الإنجيليين الذين كانوا يجهدون الى احيائها. ”
وقد انعكس هذا التشاؤم العام حول التوجه الذي يسير فيه المجتمع من وجهة النظر هذه، الى اعتبار العصر الحالي لا يميل نحو التقدم، بل إلى الانحطاط والفوضى تحت تأثير الشيطان، وان المجيء الثاني للمسيح هو وحده القادر على التخلص من هذه الفوضى، ولا يمكن لأي جهد إنساني أن يعجل قدوم ذلك اليوم، أو أن ينقذ عالمًا محكومًا عليه في النهاية. ولهذا السبب، اعتبر النشاط الاجتماعي غير مهم بالنسبة لأهم مهمة أساسية في الدين: العمل على إعداد الذات، ومساعدة الآخرين في الاستعداد، للحكم النهائي.
لقد بلغت، عملية انتزاع النزعة الأصولية من الحياة الثقافية، ذروتها الدرامية في مبنى محكمة ولاية (تينيسي) الأمريكية في عام 1925، وكان المحامي والمرشح الرئاسي (ويليام جينينغز برايان)، أبرز سياسي مسيحي في عصره، يرافع ضد (كلارنس دارو) وضد نظرية التطور في محاكمة (سكوبس) او، كما أطلق عليها، “محاكمات القرد”-هناك فيلم سينمائي يصور تلك الأحداث والمحاكمة “-“Inherit the Wind حيث جرت محاكمة معلم في مدرسة البلدة لأنه قام بتدريس نظرية التطور في المدرسة الثانوية. وفاز بريان بالقضية وخسرت البلاد.
يرى عالِم الاجتماع (جيمس دافيسون هانتر) ان الإنجيليكانية الأمريكية: “خلال خمسة وثلاثين عامًا تقريبًا، انتقلت خلالها البروتستانتية من موقع الهيمنة الثقافية إلى وضعية هامشية في مجال المعرفة ومصابة بالعجز السياسي” فتم استبدال النشاط والتفاؤل بالاستياء المرير من ضياع عالمها المفقود. لم يتحمل المهاجرون المستثمرون الأساسيون اعباء كثيرة في منفاهم، فقد أنشأوا شبكة من المؤسسات – المحطات الإذاعية، والمدارس الدينية، وكنائس التبشير. في هذه الأثناء، أصبحت البلاد أقل علمانية بعد ترحيبها بالنفوذ الديني، (ففي عام 1920، بلغت عضوية الكنيسة في الولايات المتحدة 43٪، وبحلول عام 1960، وصلت الى 63 ٪) كان كتاب (كارل هنري) “الضمير المضطرب للأصولية الحديثة” له تأثير على حثهم نحو المزيد من المشاركة الثقافية والفكرية. ووجدت هذه الثورة الجديدة تعبيرها الكامل لدى (بيلي غراهام)، الذي غادر عزلة الحي الأصولي، ليقدم للجمهور نسخة أكثر جاذبية من الإنجيليين – وهو مصطلح تم استخدامه عمدا على النقيض من الأصوليين الأكثر قدما والأضيق افقا. إن البرامج الاذاعية الحوارية المحافظة لها تأثير أكبر على الهوية السياسية للإنجيليين من التصريحات الكنسية للطوائف الدينية. في عام 1972، كان ما يقرب من 28٪ من السكان ينتمون إلى كنائس رئيسية- بروتستانتية. هذا الرقم الآن أقل بكثير من 15 في المئة.
إن الرواية السياسية الإنجيلية الأساسية هي عدائية، هي حكاية غاضبة عن عدوان خصومها الثقافيين. يشعر العديد من الإنجيليين، وهم يعيشون في بلد حر، بان المحافظة على حقوقهم هي مسألة هشّة، وان مؤسساتهم مهددة، وكرامتهم هدف لهجوم الآخرين.
الجماعة الانجيلية هي أكبر ديموغرافية دينية في الولايات المتحدة – تمثل حوالي نصف الائتلاف السياسي للحزب الجمهوري – وتعتبر نفسها أقلية محاصرة وغير محترمة، ولهذا أصبحت أكثر انخراطا وأكثر نفورا في آن واحد.
يبقى السلوك السياسي العام في السياسة الإنجيلية محافظاً بشكل متشدد، لكونه يمثل رد فعل متشدد. لقد وصل بهم الأمر ودون خجل الى معارضة حركة الحقوق المدنية، ثم ركّز الناشطون الإنجيليون البيض مهامهم على مجموعة محددة من القضايا. فدافعوا عن المدارس المسيحية ضد النظم الادارية الرسمية خلال إدارة الرئيس (جيمي كارتر). كما حاربوا قرارات المحكمة العليا التي فرضت قيوداً مشددة على اداء الصلوات في المدارس وألغوا الكثير من القيود المفروضة على الإجهاض. يصف عالم الاجتماع (ناثان غلازر) مثل هذه الجهود بأنها “هجوم دفاعي” – وهو نوع من الاندفاع الأخلاقي المؤلم ضد عالم حديث، الذي أصبح من وجهة نظر الإنجيليين، عالما عدائيا وقمعيًا.
واستغل الحزب الجمهوري المعاصر هذا الموقف بسعادة كبيرة، فالإنجيليون الذين جرى تهميشهم عن طريق العلمانية المناصرة للإجهاض، من قبل المرشحين الديمقراطيين للرئاسة، تم استدعاؤهم بفعالية للانضمام إلى ائتلاف (رونالد ريغان)، الذي قال في مؤتمر إنجيلي عام 1980: “أعرف أنه قد لا يكون بإمكانكم التصويت لي، ولكن اذكرّكم اني سأصوت لكم” وعلى النقيض من ذلك ، وخلال فترة ترشحه للرئاسة مرة ثانية بعد أربع سنوات ، حذر المرشح الديمقراطي المنافس (والتر موندايل) من “المبشرين المتطرفين” ، ونددت مرشحة نائب الرئيس في تلك الانتخابات، (جيرالدين فيرارو)، بـ “المتطرفين الذين يسيطرون على الحزب الجمهوري”. من خلال مهاجمة الإنجيليين، فعجّل هذا بحسم موقفهم.
اختلف القادة الذين ظهروا ضمن صفوف الحركة الإنجيلية بشكل كبير في اللهجة والنهج. بيلي جراهام كان كاهناً للأقوياء بدون منازع جيمس دوبسون، مؤسس جماعة “التركيز على الأسرة”، كان النبي صاحب الأشواك الموخزة، والذي يستمر في توجيه تهديداته بالانسحاب من الائتلاف الجمهوري ما لم يحافظ على نقائه المحافظ. حاول جيري فالويل الأب وبات روبرتسون (الذي رشح نفسه للرئاسة بنفسه عام 1988) أن يكونا صناع للقادة السياسيين. ومع كل هذا التنوع المربك وغير الواضح في ذهن الجمهور، توصل هؤلاء القادة الى استخدم تعبير (اليمين الديني – religious right ) كلقب جامع.