كتاب تاريخ الليبرالية الضائع لهيلينا روزنبلات
المقدمة
(دراسة تاريخ الكلمة ليست مضيعة للوقت ابدا.
—لوسيان فيبر) – 1930
“الليبرالية” هي كلمة أساسية وواسعة الانتشار في مفرداتنا، لكن الليبرالية هي أيضًا مفهوم مثير للجدل إلى حد كبير. يرى البعض أنها هدية الحضارة الغربية للبشرية، والبعض الآخر يعتبرها سبب تراجعها. تنهال كتابات لانهاية لها لمهاجمتها أو للدفاع عنها، وبالكاد يمكن لأي شخص أن يبقى محايدًا. يتهمها النقاد بقائمة طويلة من الخطايا، يقولون إنها تدمر الدين والأسرة والمجتمع، وإنها متساهلة أخلاقياً ومتعجرفة، إن لم تكن عنصرية، جنسية، وإمبريالية، والمدافعون أكيد يقولون إن الليبرالية مسؤولة عن أفضل ما لدينا- أفكارنا حول العدالة والعدالة الاجتماعية والحرية والمساواة.
لكن الحقيقة هي أننا مشوشون بشأن ما نعنيه بالليبرالية. يستخدم الناس المصطلح بجميع أنواعه بطرق مختلفة وغالبًا دون قصد، وأحيانًا عن قصد. ويتحدثون عن بعضهم البعض، مستبعدين أي احتمال للحوار، وسيكون من الجيد معرفة ما نتحدث عنه عندما نتحدث عن الليبرالية.
مقدمة
في هذا الصدد، نادرًا ما تكون التواريخ المتاحة عن الليبرالية مفيدة، اذ غالبًا ما تكون متناقضة، ووفقا لإحدى الروايات الحديثة على سبيل المثال، أن الليبرالية نشأت من المسيحية، لكن وفقًا لآخر، نشأت الليبرالية من خلال صراعها ضد المسيحية. ولكن يبرز من بين الباحثين عن اصولها وتطورها فيرجعوا بأصولها الى جيل من المفكرين العظام وكثيرا ما يتم تجنيد جون لوك كأب مؤسس لكن البعض الآخر يتحدث عن هوبز أو مكيافيلي بدلاً من ذلك وآخرون يذكرون أفلاطون أو حتى يسوع المسيح، كما ان البعض الآخر يضيف اسم آدم سميث وقائمة الاقتصاديين. يجب الاقرار أن أيا من هؤلاء المفكرين الأوائل لم يعتبروا أنفسهم ليبراليين أو تبنوا أي شيء يسمى ليبرالية، حيث لم تتوفر لهم هذه الكلمة أو المفهوم. وغني عن القول إن مفاهيمنا عن الليبرالية ستختلف وفقًا لاختيارنا للمفكرين الرئيسيين وكيف نقرأهم. من المرجح أن يكون الشخص الذي يبدأ بـ مكيافيلي أو هوبز منتقدًا لليبرالية، والشخص الذي يبدأ بيسوع المسيح سيكون على الأرجح مدافعا عنها.
لا أهدف في هذا الكتاب إلى مهاجمة الليبرالية أو الدفاع عنها، بل التأكد من معناها وتتبع تحولاتها بمرور الوقت. احاول توضيح ما الذي يعنيه مصطلحا “ليبرالي” و “ليبرالية” للأشخاص الذين استخدموهما، وأسلط الضوء على كيفية تعريف الليبراليين لأنفسهم وما الذي قصدوه عندما تحدثوا عن الليبرالية، وهذه قصة لم تُروى من قبل.
يعترف معظم العلماء بوجود مشكلة في تعريف الليبرالية، اذ يبادرون للاعتراف بأنها مصطلح زلق أو بعيد المنال. لكن الغريب هو أن معظمهم يشرع بعد ذلك في وضع تعريف شخصي لها ثم يقوم بعد ذلك ببناء تاريخ يدعمه.
الليبرالي يعني انه يفضل “الحكومة الصغيرة”، بينما في أمريكا يشير إلى تفضيل “الحكومة الكبيرة”. ويدعي الليبراليون الأمريكيون اليوم أنهم هم الليبراليون الحقيقيون ومن المفترض أن يكون جميع هؤلاء الأشخاص جزءًا من نفس التقليد الليبرالي.
النهج الذي اتبعته يؤدي إلى بعض الاكتشافات المدهشة. إحداها مركزية فرنسا في تاريخ الليبرالية. لا يمكننا الحديث عن تاريخ المفهوم دون النظر إلى فرنسا وثوراتها المتعاقبة. ولا يمكننا تجاهل حقيقة أن بعض المفكرين الأكثر عمقا وتأثيرا في تاريخ الليبرالية كانوا فرنسيين. اكتشاف آخر هو أهمية ألمانيا، التي يتم عادة التقليل من مساهماتها في تاريخ الليبرالية، هذا اذا لم يتم تجاهلها بالكامل، الحقيقة أن فرنسا هي التي اخترعت الليبرالية في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر وأعادت ألمانيا تشكيلها بعد نصف قرن، اما أمريكا فقد استحوذت على الليبرالية فقط في أوائل القرن العشرين، وعندها فقط أصبحت تقليدًا سياسيًا أمريكيًا.
سنرى أن العديد من الأفراد غير المعروفين نسبيًا اليوم قدموا مساهمات كبيرة في الليبرالية. ابتكر اللاهوتي الألماني يوهان سالومو سيملر الليبرالية الدينية، كما ابتكر النبيل الفرنسي شارل دي مونتاليمبيرت مصطلح “الديمقراطية الليبرالية”. ومع ذلك، ساهم لاعبون رئيسيون آخرون في المجلة الأمريكية New Republic حيث استوردوا المفهوم ونشروه في أمريكا.
يلعب جون لوك وجون ستيوارت ميل، دورا اساسيا في هذا السياق، فقد ناقشوا الفرنسيين والألمان واستوحوا منهم الكثير، وتحدثوا مباشرة إلى معاصريهم، من اجل معالجة مشاكل عصرهم، وليس عصرنا. بالإضافة إلى ذلك، سأسلط الضوء على الشخصيات التي ساهمت عن غير قصد في تاريخ الليبرالية، مثل نابليون، والمستشار النمساوي كليمنس فون مترنيخ، والعديد من الشخصيات المضادة للثورة، الذين أجبروا الليبراليين على صقل معتقداتهم وتطويرها.
أخيرًا، سأوضح ما أعتقد أنه حقيقة حاسمة ضاعت من التاريخ، لقد كان معظم الليبراليين أخلاقيين، ليبراليتهم لا علاقة لها بالنزعة الفردية او التفرد الذي نسمعه اليوم، لم يتحدثوا أبداً عن الحقوق دون التأكيد على الواجبات. اعتقد معظم الليبراليين أن الناس لديهم حقوق لأن عليهم واجبات، وكان معظمهم مهتمين بشدة بمسائل العدالة الاجتماعية، لقد رفضوا دائمًا فكرة أنه يمكن بناء مجتمع قابل للحياة على أساس المصلحة الذاتية وحدها، وحذروا إلى ما لا نهاية من مخاطر الأنانية. دعا الليبراليون بلا هوادة إلى الكرم والنزاهة الأخلاقية والقيم المدنية، هذا بالطبع لا يجب أن يؤخذ على أنه يعني أنهم مارسوا دائمًا ما بشروا به أو ارتقوا إلى قيمه.
كما أسعى أيضًا إلى إظهار أن فكرة أن الليبرالية هي تقليد أنجلو أمريكي يهتم في المقام الأول بحماية الحقوق والمصالح الفردية وهو تطور حديث جدًا في تاريخ الليبرالية، إنه نتاج حروب القرن العشرين وخاصة الخوف من الشمولية خلال الحرب الباردة. ولقرون عديدة قبل هذا، كان الليبرالي يعني شيئًا مختلفًا جدًا، كان يعني أن تكون مواطناً له عقلية مدنية؛ اي إدراك المرء لأهمية اتصاله بالمواطنين الآخرين والتصرف بطرق تؤدي إلى الصالح العام.
منذ البداية، كان هوس اغلب الليبراليين منصبا على ضرورة الإصلاح الأخلاقي، لقد وجدوا ان لهم مشروعا أخلاقيا، ويكشف هذا الاهتمام بالإصلاح الأخلاقي على تفسير اهتمامهم المستمر بالدين، والهدف الآخر لهذا الكتاب هو إعادة ضبط مناقشاتنا لإفساح المجال لهذه الحقيقة المهمة. احاول ان أبيّن أن الأفكار والخلافات الدينية دفعت المناقشات حول الليبرالية منذ البداية، كما أنها استقطبت الناس داخل معسكرات معادية. كان وصف أحد أقدم الهجمات على الليبرالية بأنها “بدعة دينية – سياسية”، فحدد ذلك التوجه لقرون قادمة، حتى يومنا هذا، الليبرالية ملزمة بالدفاع عن نفسها ضد اتهامات لا هوادة فيها بالدين والفسوق.
وحقيقة ان الليبراليين رأوا في أنفسهم مصلحين أخلاقيين لا يعني أنهم كانوا بلا خطيئة. كشف الكثير من الأعمال الحديثة عن جانب مظلم من الليبرالية، فقد كشف العلماء عن النخبوية والتحيز الجنسي والعنصرية والإمبريالية للعديد من الليبراليين. ويتساءلون كيف يمكن لأيديولوجية مكرسة لحقوق متساوية أن تدعم مثل هذه الممارسات البشعة؟ أنا بالتأكيد لا أنكر الجوانب الأكثر قبحًا لليبرالية، ولكن حين أضع الأفكار الليبرالية في سياقها الزمني، أستطيع ان أروي قصة أكثر دقة وتعقيدًا.
على الرغم من أنني اتحدث عن الليبرالية في أجزاء أخرى من العالم، إلا أنني أركز على فرنسا وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة. قد يبدو هذا الاختيار تعسفيا أو مفرطا للبعض. بالطبع، ساهمت دول أخرى في تاريخ الليبرالية. لكني أعتقد أن الليبرالية ولدت في أوروبا وانتشرت من هناك. وبشكل أكثر تحديداً، فإن الليبرالية ترجع أصولها إلى الثورة الفرنسية، وحيثما هاجرت بعد ذلك، ظلت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتطورات السياسية في فرنسا.
البداية بفصل عن عصور ما قبل تاريخ الليبرالية، بدءًا من رجل الدولة الروماني سيسيرو وانتهاءً بالنبيل الفرنسي ماركيز دي لافاييت، في الفصل الأول، أشرح ما يعنيه أن يكون ليبراليًا عندما لم تكن كلمة “الليبرالية” موجودة بعد، ومن الجيد معرفة هذا التاريخ العميق لكلمة “ليبرالي، لأن كل من اعتبر نفسه او لقبها بكونه ليبرالي استمر على مدى القرون التالية في التعرف على هذا المثال القديم والأخلاقي، واستمرت القواميس في تعريف “الليبرالي” بهذه الطريقة التقليدية. في منتصف القرن العشرين، لا يزال الفيلسوف الأمريكي جون ديوي يصر على أن الليبرالية تمثل “التحرر والكرم، حول العقل والشخصية”. وقال إن الليبرالية لا علاقة لها “بتقديس إنجيل الفردية”. الفصل الأول يروي قصة كيف استخدمت الكلمة في البداية لتحديد الصفات المثالية للمواطن الروماني من مسيحية، ودمقرطة، واجتماعية، وتسييس، حتى استخدمت بحلول أواخر القرن الثامن عشر لوصف الدستور الأمريكي.
ثم يركز الجزء الرئيسي من الكتاب على أربعة أحداث رئيسية يتشابك فيها تاريخ فرنسا مع الليبرالية، أي ثورات 1789 و1830 و1848 و1870، والمناقشات العابرة للمحيط الأطلسي التي ولدتها هذه الثورات. تبدأ قصة الليبرالية بشكل فعلي في الفصل 2 الذي يروي صياغة الكلمة والخلافات التي أحاطت بها. بعض الموضوعات التي تمت مناقشتها في هذا الفصل هي علاقة الليبرالية بالنظام الجمهوري والاستعمار وعدم التدخل والقضية النسائية، وكلها موضوعات تم تطويرها بشكل أكبر في بقية الكتاب. ولعل أهم قضية على الإطلاق هي علاقة الليبرالية المشحونة بالدين، والتي تمت مناقشتها هنا أيضًا عندما تناولنا أصول السياسة الراديكالية للثورة الفرنسية، ويتناول الفصل 3 قصة تطور الليبرالية من عام 1830 إلى عشية ثورات عام 1848، مع إيلاء اهتمام وثيق لظهور إيديولوجيات سياسية جديدة مثل الاشتراكية من جهة، والاتجاهات المحافظة من ناحية أخرى.
يتناول الفصل الرابع فشل الليبرالية كما تصوره البعض في الاضطرابات التي حدثت عام 1848، وكيف سعى الليبراليون إلى معالجة هذا الفشل، لقد ركزوا بشكل كبير على مؤسسات مثل الأسرة والدين والماسونية فيما اعتبروه مشروعًا أخلاقيًا وتعليميًا في الأساس. ينتقل الفصل الخامس إلى موضوع الحوكمة الليبرالية، ويركز على نابليون الثالث، وأبراهام لينكولن، وويليام غلادستون ، وأوتو فون بسمارك ، على كيفية تكوين قيادتهم لأفكار جديدة حول العلاقة بين الأخلاق ، والتحرر ، والديمقراطية، ثم كيف ولدت فكرة “الديمقراطية الليبرالية”. ينظر الفصل السادس في ثورة فرنسا الرابعة عام 1870 وتداعياتها، ويصف معارك الجمهورية الفرنسية الثالثة ضد الكنيسة الكاثوليكية في محاولة لخلق ما أطلق عليه الجمهوريون النظام التعليمي الأكثر ليبرالية في العالم. يروي الفصل السابع كيف تم تصور الليبرالية الجديدة، الصديقة للأفكار الاشتراكية، في نهاية القرن التاسع عشر وكيف تم استحضار الليبرالية “الكلاسيكية” أو “الأرثوذكسية” كرد على ذلك.
وقد وقعت معركة عظيمة حول أي منها – الجديد أو القديم – كان يعبر عن الليبرالية “الحقيقية”. أخيرًا، يروي الفصل الثامن كيف دخلت الليبرالية إلى المفردات السياسية الأمريكية في أوائل القرن العشرين، وأصبح يُنظر إليها باعتبارها تقليد فكري أمريكي فريد، جرت صياغنه ايضا في مفهوم الهيمنة العالمية الأمريكية. لقد ناقش صانعو السياسة الآن ما تعنيه الليبرالية الأمريكية بالضبط فيما يتعلق بالشؤون الخارجية والداخلية، ثم أقدم في الخاتمة بعض الاقتراحات حول سبب اعتقادنا بأن الليبرالية تتركز بشكل أساسي على الحقوق الخاصة والخيارات الفردية، واناقش بعدها كيف جاءت أمركة الليبرالية في منتصف القرن العشرين لتطغى على التاريخ المعاد سرده في هذا الكتاب لدرجة أن العديد منا اليوم لا يتذكرونه على الإطلاق.
“www.yonadam.com سأبدأ بنشر فصول هذا الكتاب “تاريخ الليبرالية الضائع” تباعا على صفحتي وعلى موقع :”www.yonadam.
كتاب تاريخ الليبرالية الضائع لهيلينا روزنبلات (الجزء الاول)
المقدمة
(دراسة تاريخ الكلمة ليست مضيعة للوقت ابدا.
—لوسيان فيبر) – 1930
الليبرالية” هي كلمة أساسية وواسعة الانتشار في مفرداتنا، لكن الليبرالية هي أيضًا مفهوم مثير للجدل إلى حد كبير. يرى البعض أنها هدية الحضارة الغربية للبشرية، والبعض الآخر يعتبرها سبب تراجعها. تتتابع كتابات غزيرة لمهاجمتها أو للدفاع عنها، وبالكاد يمكن لأي شخص أن يبقى محايدًا. يتهمها النقاد بقائمة طويلة من الخطايا، يقولون إنها تدمر الدين والأسرة والمجتمع، وإنها متساهلة أخلاقياً ومتعجرفة، إن لم تكن عنصرية، جنسية، وإمبريالية، والمدافعون أكيد يقولون إن الليبرالية مسؤولة عن أفضل ما لدينا- أفكارنا حول العدالة والعدالة الاجتماعية والحرية والمساواة.
لكن الحقيقة هي أننا مشوشون بشأن ما نعنيه بالليبرالية. يستخدم الناس المصطلح بجميع أنواعه بطرق مختلفة وغالبًا دون قصد، وأحيانًا عن قصد. ويتحدثون عن بعضهم البعض، مستبعدين أي احتمال للحوار، وسيكون من الجيد معرفة ما نتحدث عنه عندما نتحدث عن الليبرالية.
في هذا الصدد، نادرًا ما تكون التواريخ المتاحة عن الليبرالية مفيدة، اذ غالبًا ما تكون متناقضة، ووفقا لإحدى الروايات الحديثة على سبيل المثال، فأن الليبرالية نشأت من المسيحية، لكن وفقًا لآخر، نشأت الليبرالية من خلال صراعها ضد المسيحية. ولكن يبرز من بين الباحثين عن اصولها وتطورها فيرجعوا بأصولها الى جيل من المفكرين العظام وكثيرا ما يتم تجنيد جون لوك كأب مؤسس لكن البعض الآخر يتحدث عن هوبز أو مكيافيلي بدلاً من ذلك وآخرون يذكرون أفلاطون أو حتى يسوع المسيح، كما ان البعض الآخر يضيف اسم آدم سميث وقائمة الاقتصاديين. يجب الاقرار أن أيا من هؤلاء المفكرين الأوائل لم يعتبروا أنفسهم ليبراليين أو تبنوا أي شيء يسمى ليبرالية، حيث لم تتوفر لهم هذه الكلمة أو المفهوم. وغني عن القول إن مفاهيمنا عن الليبرالية ستختلف وفقًا لاختيارنا للمفكرين الرئيسيين وكيف نقرأهم. من المرجح أن يكون الشخص الذي يبدأ بـ مكيافيلي أو هوبز منتقدًا لليبرالية، والشخص الذي يبدأ بيسوع المسيح سيكون على الأرجح مدافعا عنها.
لا أهدف في هذا الكتاب إلى مهاجمة الليبرالية أو الدفاع عنها، بل التأكد من معناها وتتبع تحولاتها بمرور الوقت. احاول توضيح ما الذي يعنيه مصطلحا “ليبرالي” و “ليبرالية” للأشخاص الذين استخدموهما، وأسلط الضوء على كيفية تعريف الليبراليين لأنفسهم وما الذي يقصدوه عندما تحدثوا عن الليبرالية، وهذه قصة لم تُروى من قبل.
يعترف معظم العلماء بوجود مشكلة في تعريف الليبرالية، اذ يبادرون للاعتراف بأنها مصطلح زلق أو بعيد المنال. لكن الغريب هو أن معظمهم يشرع بعد ذلك في وضع تعريف شخصي لها ثم يقوم بعد ذلك ببناء تاريخ يدعمه.
الليبرالي يعني انه يفضل “الحكومة الصغيرة”، بينما في أمريكا يشير إلى تفضيل “الحكومة الكبيرة”. ويدعي الليبراليون الأمريكيون اليوم أنهم هم الليبراليون الحقيقيون ومن المفترض أن يكون جميع هؤلاء الأشخاص جزءًا من نفس التقليد الليبرالي.
النهج الذي اتبعته يؤدي إلى بعض الاكتشافات المدهشة. إحداها مركزية فرنسا في تاريخ الليبرالية. لا يمكننا الحديث عن تاريخ المفهوم دون النظر إلى فرنسا وثوراتها المتعاقبة. ولا يمكننا تجاهل حقيقة أن بعض المفكرين الأكثر عمقا وتأثيرا في تاريخ الليبرالية كانوا فرنسيين. اكتشاف آخر هو أهمية ألمانيا، التي يتم عادة التقليل من مساهماتها في تاريخ الليبرالية، هذا إذا لم يتم تجاهلها بالكامل، الحقيقة أن فرنسا هي التي اخترعت الليبرالية في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر وأعادت ألمانيا تشكيلها بعد نصف قرن، اما أمريكا فقد استحوذت على الليبرالية فقط في أوائل القرن العشرين، وعندها فقط أصبحت تقليدًا سياسيًا أمريكيًا.
سنرى أن العديد من الأفراد غير المعروفين نسبيًا اليوم قدموا مساهمات كبيرة في الليبرالية. ابتكر اللاهوتي الألماني يوهان سالومو سيملر الليبرالية الدينية، كما ابتكر النبيل الفرنسي شارل دي مونتاليمبيرت مصطلح “الديمقراطية الليبرالية”. ومع ذلك، ساهم لاعبون رئيسيون آخرون في المجلة الأمريكية New Republic حيث استوردوا المفهوم ونشروه في أمريكا.
يلعب جون لوك وجون ستيوارت ميل، دورا اساسيا في هذا السياق، فقد ناقشوا الفرنسيين والألمان واستوحوا منهم الكثير، وتحدثوا مباشرة إلى معاصريهم، من اجل معالجة مشاكل عصرهم، وليس عصرنا. بالإضافة إلى ذلك، سأسلط الضوء على الشخصيات التي ساهمت عن غير قصد في تاريخ الليبرالية، مثل نابليون، والمستشار النمساوي كليمنس فون مترنيخ، والعديد من الشخصيات المضادة للثورة، الذين أجبروا الليبراليين على صقل معتقداتهم وتطويرها.
أخيرًا، سأوضح ما أعتقد أنه حقيقة حاسمة ضاعت من التاريخ، لقد كان معظم الليبراليين أخلاقيين، ليبراليتهم لا علاقة لها بالنزعة الفردية او التفرد الذي نسمعه اليوم، لم يتحدثوا أبداً عن الحقوق دون التأكيد على الواجبات. اعتقد معظم الليبراليين أن الناس لديهم حقوق لأن عليهم واجبات، وكان معظمهم مهتمين بشدة بمسائل العدالة الاجتماعية، لقد رفضوا دائمًا فكرة أنه يمكن بناء مجتمع قابل للحياة على أساس المصلحة الذاتية وحدها، وحذروا إلى ما لا نهاية من مخاطر الأنانية. دعا الليبراليون بلا هوادة إلى الكرم والنزاهة الأخلاقية والقيم المدنية، هذا بالطبع لا يجب أن يؤخذ على أنه يعني أنهم مارسوا دائمًا ما بشروا به أو ارتقوا إلى قيمه.
كما أسعى أيضًا إلى إظهار أن فكرة أن الليبرالية هي تقليد أنجلو أمريكي يهتم في المقام الأول بحماية الحقوق والمصالح الفردية وهو تطور حديث جدًا في تاريخ الليبرالية، إنه نتاج حروب القرن العشرين وخاصة الخوف من الشمولية خلال الحرب الباردة. ولقرون عديدة قبل هذا، كان الليبرالي يعني شيئًا مختلفًا جدًا، كان يعني أن تكون مواطناً له عقلية مدنية؛ اي إدراك المرء لأهمية اتصاله بالمواطنين الآخرين والتصرف بطرق تؤدي إلى الصالح العام.
منذ البداية، كان هوس اغلب الليبراليين منصبا على ضرورة الإصلاح الأخلاقي، لقد وجدوا ان لهم مشروعا أخلاقيا، ويكشف هذا الاهتمام بالإصلاح الأخلاقي على تفسير اهتمامهم المستمر بالدين، والهدف الآخر لهذا الكتاب هو إعادة ضبط مناقشاتنا لإفساح المجال لهذه الحقيقة المهمة. احاول ان أبيّن أن الأفكار والخلافات الدينية دفعت المناقشات حول الليبرالية منذ البداية، كما أنها استقطبت الناس داخل معسكرات معادية. كان وصف أحد أقدم الهجمات على الليبرالية بأنها “بدعة دينية – سياسية”، فحدد ذلك التوجه لقرون قادمة، حتى يومنا هذا، الليبرالية ملزمة بالدفاع عن نفسها ضد اتهامات لا هوادة فيها بالدين والفسوق.
وحقيقة ان الليبراليين رأوا في أنفسهم مصلحين أخلاقيين لا يعني أنهم كانوا بلا خطيئة. كشف الكثير من الأعمال الحديثة عن جانب مظلم من الليبرالية، فقد كشف العلماء عن النخبوية والتحيز الجنسي والعنصرية والإمبريالية للعديد من الليبراليين. ويتساءلون كيف يمكن لأيديولوجية مكرسة لحقوق متساوية أن تدعم مثل هذه الممارسات البشعة؟ أنا بالتأكيد لا أنكر الجوانب الأكثر قبحًا لليبرالية، ولكن حين أضع الأفكار الليبرالية في سياقها الزمني، أستطيع ان أروي قصة أكثر دقة وتعقيدًا.
على الرغم من أنني اتحدث عن الليبرالية في أجزاء أخرى من العالم، إلا أنني أركز على فرنسا وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة. قد يبدو هذا الاختيار تعسفيا أو مفرطا للبعض. بالطبع، ساهمت دول أخرى في تاريخ الليبرالية. لكني أعتقد أن الليبرالية ولدت في أوروبا وانتشرت من هناك. وبشكل أكثر تحديداً، فإن الليبرالية ترجع أصولها إلى الثورة الفرنسية، وحيثما هاجرت بعد ذلك، ظلت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتطورات السياسية في فرنسا.
البداية بفصل عن عصور ما قبل تاريخ الليبرالية، بدءًا من رجل الدولة الروماني سيسيرو وانتهاءً بالنبيل الفرنسي ماركيز دي لافاييت، في الفصل الأول، أشرح ما يعنيه أن يكون ليبراليًا عندما لم تكن كلمة “الليبرالية” موجودة بعد، ومن الجيد معرفة هذا التاريخ العميق لكلمة “ليبرالي، لأن كل من اعتبر نفسه او لقبها بكونه ليبرالي استمر على مدى القرون التالية في التعرف على هذا المثال القديم والأخلاقي، واستمرت القواميس في تعريف “الليبرالي” بهذه الطريقة التقليدية. في منتصف القرن العشرين، لا يزال الفيلسوف الأمريكي جون ديوي يصر على أن الليبرالية تمثل “التحرر والكرم، حول العقل والشخصية”. وقال إن الليبرالية لا علاقة لها “بتقديس إنجيل الفردية”. الفصل الأول يروي قصة كيف استخدمت الكلمة في البداية لتحديد الصفات المثالية للمواطن الروماني من مسيحية، ودمقرطة، واجتماعية، وتسييس، حتى استخدمت بحلول أواخر القرن الثامن عشر لوصف الدستور الأمريكي.
ثم يركز الجزء الرئيسي من الكتاب على أربعة أحداث رئيسية يتشابك فيها تاريخ فرنسا مع الليبرالية، أي ثورات 1789 و1830 و1848 و1870، والمناقشات العابرة للمحيط الأطلسي التي ولدتها هذه الثورات. تبدأ قصة الليبرالية بشكل فعلي في الفصل 2 الذي يروي صياغة الكلمة والخلافات التي أحاطت بها. بعض الموضوعات التي تمت مناقشتها في هذا الفصل هي علاقة الليبرالية بالنظام الجمهوري والاستعمار وعدم التدخل والقضية النسائية، وكلها موضوعات تم تطويرها بشكل أكبر في بقية الكتاب. ولعل أهم قضية على الإطلاق هي علاقة الليبرالية المشحونة بالدين، والتي تمت مناقشتها هنا أيضًا عندما تناولنا أصول السياسة الراديكالية للثورة الفرنسية، ويتناول الفصل 3 قصة تطور الليبرالية من عام 1830 إلى عشية ثورات عام 1848، مع إيلاء اهتمام وثيق لظهور إيديولوجيات سياسية جديدة مثل الاشتراكية من جهة، والاتجاهات المحافظة من ناحية أخرى.
يتناول الفصل الرابع فشل الليبرالية كما تصوره البعض في الاضطرابات التي حدثت عام 1848، وكيف سعى الليبراليون إلى معالجة هذا الفشل، لقد ركزوا بشكل كبير على مؤسسات مثل الأسرة والدين والماسونية فيما اعتبروه مشروعًا أخلاقيًا وتعليميًا في الأساس. ينتقل الفصل الخامس إلى موضوع الحوكمة الليبرالية، ويركز على نابليون الثالث، وأبراهام لينكولن، وويليام غلادستون ، وأوتو فون بسمارك ، على كيفية تكوين قيادتهم لأفكار جديدة حول العلاقة بين الأخلاق ، والتحرر ، والديمقراطية، ثم كيف ولدت فكرة “الديمقراطية الليبرالية”. ينظر الفصل السادس في ثورة فرنسا الرابعة عام 1870 وتداعياتها، ويصف معارك الجمهورية الفرنسية الثالثة ضد الكنيسة الكاثوليكية في محاولة لخلق ما أطلق عليه الجمهوريون النظام التعليمي الأكثر ليبرالية في العالم. يروي الفصل السابع كيف تم تصور الليبرالية الجديدة، الصديقة للأفكار الاشتراكية، في نهاية القرن التاسع عشر وكيف تم استحضار الليبرالية “الكلاسيكية” أو “الأرثوذكسية” كرد على ذلك.
وقد وقعت معركة عظيمة حول أي منها – الجديد أو القديم – كان يعبر عن الليبرالية “الحقيقية”. أخيرًا، يروي الفصل الثامن كيف دخلت الليبرالية إلى المفردات السياسية الأمريكية في أوائل القرن العشرين، وأصبح يُنظر إليها باعتبارها تقليد فكري أمريكي فريد، جرت صياغنه ايضا في مفهوم الهيمنة العالمية الأمريكية. لقد ناقش صانعو السياسة الآن ما تعنيه الليبرالية الأمريكية بالضبط فيما يتعلق بالشؤون الخارجية والداخلية، ثم أقدم في الخاتمة بعض الاقتراحات حول سبب اعتقادنا بأن الليبرالية تتركز بشكل أساسي على الحقوق الخاصة والخيارات الفردية، واناقش بعدها كيف جاءت أمركة الليبرالية في منتصف القرن العشرين لتطغى على التاريخ المعاد سرده في هذا الكتاب لدرجة أن العديد منا اليوم لا يتذكرونه على الإطلاق.
الثورة الفرنسية
وأصول الليبرالية، 1789-1830
الخلافات حول الكلمات هي دائمًا نزاعات حول الأشياء.
– مادام دي ستيل ، l8lO
في 3 أغسطس 1787، كتب ماركيز دي لافاييت إلى صديقه جورج واشنطن بعض الأخبار الممتازة: “روح الحرية تنتشر في هذا البلد بمعدل كبير،” وقال، “الأفكار الليبرالية تتلاشى من أحد أطراف المملكة إلى الأخرى “. خدم لافاييت تحت قيادة واشنطن في الحرب الثورية الأمريكية وكان معجبًا كبيرًا بالدستور الأمريكي. كان سعيدًا للإبلاغ عن أن الفرنسيين، الذين عاشوا لقرون في ظل ملكية مطلقة قمعية، كانوا مستعدين لنظام حكم ليبرالي مماثل للنظام الأمريكي.
عندما كتب لافاييت هذه الرسالة، كان يعمل في جمعية الأعيان، وهو مجلس دعا إليه الملك الفرنسي، لويس السادس عشر، لتقديم المشورة له بشأن حل أزمة – كانت خزنته مفلسة وشعبه يطالب بالإصلاح. بالطبع، لم يكن لدى لافاييت أي وسيلة لمعرفة أن الثورة على وشك الانفجار، وأنها ستؤدي إلى ظهور مجموعة من الأفكار التي قد يسميها الناس “ليبرالية”.
وكل من اعتاد على سماع أن الليبرالية تقليد أنجلو أمريكي قد يفاجأ بمعرفة أنها في الواقع تدين بميلادها للثورة الفرنسية. تمت صياغة الكلمة نفسها حوالي عام 1811، وكان الرجال والنساء مثل ماركيز دي لافاييت وأصدقائه، مدام دي ستايل وبنيامين كونستانت ، هم أول من صاغ الأفكار التي أشارت إليها.
لمئات السنين، كانت كلمة “ليبرالي” كلمة تُستخدم لوصف السمات الجديرة بالثناء لأحد أعضاء النخبة الحاكمة. في العصر الروماني كان أحد مواطني الجمهورية، وفي فرنسا في القرن الثامن عشر كان نبيلًا، ولقد ذكر قاموس باريسي عام 1771 ما كان لا يزال مألوفًا في ذلك الوقت: كان التحرر صفة “أساسية للنبلاء.”. كونك ليبراليًا كان نوعًا من إلزام النبلاء، وعلى هذا النحو، فقد دعم نظامًا اجتماعيًا سياسيًا هرميًا قائمًا على الامتياز الوراثي. كان العديد من النبلاء الفرنسيين بلا شك يودون اعتبار أنفسهم ليبراليين بهذا المعنى التقليدي.
لكن بفضل أشخاص مثل لافاييت ودائرة أصدقائه، بدأ ينتشر معنى جديد ومنافس للمصطلح. بدأ بعض الأفراد في استخدام الكلمة لوصف الأفكار والمشاعر وحتى الدساتير الجديرة بالثناء. غالبًا ما أشاد لافاييت بما أشار إليه بدستور أمريكا “الحر والليبرالي” أو “نظامها الليبرالي”، كانت هذه إحدى الطرق التي انتشر بها المعنى السياسي لكلمة “ليبرالي”.
أصبح دستور أمريكا ذا صلة بشكل خاص في السنوات التي سبقت الثورة، عندما كان الفرنسيون يناقشون حاجتهم الخاصة للإصلاح السياسي. وصلت نسخ من الدستور الفيدرالي للولايات المتحدة إلى فرنسا في نوفمبر 1787 وأثارت نقاشات حية بين من يسمون بالأنجلومان والأمريكيين حول الدستور الأفضل، البريطاني أم الأمريكي؟ اشتدت هذه المناقشات فقط عندما اندلعت الثورة في عام 1789 وبدأت الجمعية الوطنية في تنفيذ الإصلاحات. خدم لافاييت ليس فقط في جمعية الأعيان والعقارات العامة التي تلت ذلك، ولكن أيضًا في الجمعية الوطنية، وكان مدافعًا صريحًا عن الدستور الأمريكي. وقدم صديقه توماس جيفرسون، الذي كان سفيراً للولايات المتحدة في باريس، نصائحه حول هذه القضايا أيضاً. انتشرت في دوائرهم فكرة الدستور الليبرالي.
كانت أهم الإصلاحات المبكرة للجمعية الوطنية بلا شك إعلان حقوق الإنسان والمواطن، وهي وثيقة ساعد لافاييت وجيفرسون في كتابتها، وبلغة تذكر المرء بإعلان الاستقلال الأمريكي، ونصت المادتان الأولويتان فيه على أن الرجال ولدوا وظلوا أحرارًا وانهم متساوين في الحقوق، وأن الغرض من الحكومة هو الحفاظ على هذه الحقوق. نصت مواد أخرى على أن كل السيادة هي للأمة، وأن سلطات الحكومة وضعت لمصلحة الجميع. كما وعدت مادة أخرى كل مواطن فرنسي بالحق في المشاركة، سواء شخصيًا أو من خلال ممثليه، في صنع القوانين. بهذه الكلمات البسيطة، تم إلغاء النظام القديم، وبدت فرنسا وكأنها تتجه نحو نوع من النظام الليبرالي الذي تبناه لافاييت وآخرون.
قوبلت هذه المرحلة المبكرة والسلمية نسبيًا من الثورة بحماس كبير في كل مكان تقريبًا في العالم الأطلسي. في إنجلترا، وصف زعيم الحزب اليميني تشارلز جيمس فوكس الثورة بأنها “أعظم حدث في تاريخ العالم.” ووافق العديد من البريطانيين الليبراليين على هذا الرأي. بدت فرنسا وكأنها تتخلى عن الحكم المطلق وتتبنى دستورًا ليبراليًا مثل دستورها. أرسل البعض رسائل إلى الجمعية الوطنية الفرنسية تشيد بـ “المبادئ الليبرالية” للنواب و “التشريعات الليبرالية” التي كانوا يقرونها، وبدأوا الآن في استخدام هذه المصطلحات الجديدة نسبيًا والسياسية بوتيرة متزايدة. وكان الجمهور أيضًا متحمسًا إلى حد كبير، بينما رحب العديد من الألمان والإسبان والإيطاليين بالثورة، على أمل أن تصل اليهم الإصلاحات الليبرالية أيضًا.
بالطبع، لم تغمر السعادة الجميع، اذ سرعان ما اندلع نزاع عنيف حول ما إذا كانت الإصلاحات التي تم تمريرها هي في الواقع ليبرالية أم لا، وأنتجت هذه الحجة أحد أعظم نصوص النظرية السياسية، وهي تأملات إدموند بيرك حول الثورة في فرنسا، وهو كتيب يعتبر الآن نصًا مؤسسًا للفكر السياسي المحافظ.
من المنظور المعتمد هنا، فإن أحد أكثر الأشياء إثارة للاهتمام حول نص بيرك هو رفضه التنازل عن مصطلح “ليبرالي” للثوار الفرنسيين، فقد أصر على وصفهم بـ “غير الليبراليين”. وقد تبدو مثل هذه الحروب الكلامية تافهة بالنسبة لنا اليوم، لكن ضراوتها وطول عمرها على مدار القرن التاسع عشر هي مؤشرات على المخاطر التي ينطوي عليها الأمر. كما أوضحت مدام دي ستيل، “الخلافات حول الكلمات هي دائمًا نزاعات حول الأشياء.”
بدأ السباق في بريطانيا في 4 نوفمبر ١٧٨٩، عندما ألقى رجل الدين والفيلسوف ريتشارد برايس خطبة أشعلت عاصفة من الجدل. كان برايس، كما نعلم، منشقًا دينيًا وناشطًا شرسًا من أجل إلغاء العراقيل القانونية التي يعاني منها أتباعه في الدين. كان أيضًا صديقًا لبنيامين فرانكلين وكان مميزًا نفسه لدعمه للثورة الأمريكية. وفي اجتماع للاحتفال بالذكرى السنوية لثورة إنجلترا في 1688-1689، استغل الفرصة ليقترح أن يستلهم البريطانيون من الثورتين الأمريكية والفرنسية و “تحرير” مبادئهم التأسيسية، وعلى الأرجح صاغ مصطلح “تحرير” في هذه العملية مخاطبًا نفسه مباشرة عبر الشعب البريطاني، أعلن برايس أنه مثل الفرنسيين الذين لديهم أيضًا الحق في اختيار قادتهم، وعزلهم بسبب سوء السلوك، بل وحتى تغيير شكل حكومتهم إذا رغبوا في ذلك. بعد فترة وجيزة من خطاب برايس، بعثت جمعية ثورة لندن، التي ينتمي إليها، برسالة صداقة إلى النواب الفرنسيين في الجمعية الوطنية أعربت فيها عن دعم أعضائها “لمشاعرهم الليبرالية والمستنيرة”. وسيتم تحرير الدستور الخاص به كذلك.
أثارت خطبة برايس، التي نُشرت وانتشرت على نطاق واسع، جدلاً محتدمًا. أصيب إدموند بيرك، وهو يميني بارز وعضو في البرلمان، بالرعب. كان بيرك من المؤيدين للقيود الدستورية على النظام الملكي، وعارض اضطهاد الكاثوليك، وكان مثل برايس مؤيدًا للثورة الأمريكية. من المؤكد أنه كان يعتبر نفسه ليبراليًا بالمعنى التقليدي للكلمة. لكن ما كان يحدث في فرنسا كان مختلفًا تمامًا في تقديره. من خلال منطق بورك، حارب
الأمريكيون من أجل الحقوق الموجودة تاريخيًا، بينما كان الفرنسيون يخترعون حقوقًا جديدة. كما كان قلقًا للغاية من أن الأفكار الفرنسية عن السيادة الشعبية والحقوق الطبيعية ستعبر القنال الإنجليزي إلى بريطانيا. دافعت تأملاته بشراسة عن شرعية الحكم الأرستقراطي. وأصر على “الجهل المتهور” و “الأسلوب الوحشي” للمشرعين الفرنسيين، وأصر على أنهم “ليسوا ليبراليين”. وقع مصير فرنسا في أيدي “عدد كبير من الخنازير”. وأصبح كتيب بورك من أكثر الكتب مبيعًا على الفور: ثلاثة عشر ألف نسخة خلال الأسابيع الخمسة الأولى، واعيد طبعه إحدى عشرة مرة في السنة الأولى، وتم ترجمة النص ونشره في جميع أنحاء أوروبا.
ما الذي كان يحدث بالضبط في فرنسا والذي أزعج بيرك؟ في الأشهر التي تلت خطبة برايس، أجاز النواب الفرنسيون سلسلة من الإصلاحات التي زعزعت أسس النظام الأرستقراطي والديني التقليدي في البلاد. في 19 يونيو 1790، أعلنوا إلغاء (النبل) الوراثي إلى الأبد. لقد ألغوا حق الابن البكر في الوراثة ووضعوا حدًا لجميع مستحقات السيادة والعشور، وأعلنوا أن الوعود الرهبانية لم تعد ملزمة قانونًا.
بعد ذلك، دفعت كارثة مالية وشيكة النواب إلى اتخاذ خطوات إضافية ذات عواقب وخيمة. في نوفمبر 1789، صادروا جميع ممتلكات الكنيسة تقريبًا بقصد بيعها لسداد الدين الوطني. لقد وعدوا بدفع رواتب رجال الدين بدلاً من ذلك. ثم تابع النواب بعد ذلك الإجراء الذي ربما يكون الأكثر جذرية وإثارة للجدل على الإطلاق: ما يسمى بالدستور المدني لرجال الدين. هذا الإجراء، الذي تم إقراره في يوليو 1790 دون استشارة مسبقة مع البابا أو قيادة الكنيسة الفرنسية، أدى إلى ترشيد هيكل الكنيسة ووضعها تحت سيطرة الدولة. أعاد القانون رسم حدود الأبرشيات القائمة وأزال أكثر من ثلث الأساقفة الموجودة. والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أنها أصدرت مرسوماً يقضي بأن ينتخب الناخبون كهنة وأساقفة رعاياهم. عندما واجه النواب مقاومة لهذه الإصلاحات، استجابوا لمطالبة جميع رجال الدين بالتوقيع على قسم الولاء للدستور أو سيضطرون إلى الاستقالة. في النهاية، رفض رجال الدين أداء القسم وأصبح العديد من المؤمنين الكاثوليك المتعاطفين مع قساوسة محليين معادين للثورة.
أدانت Burke’s Reflections كل هذه الإجراءات بشكل لا لبس فيه، وادعت ان النواب المتعصبين الملحدين يقومون بتدمير الدين. لقد خانت لغته نظرته الأرستقراطية.
واتهم النواب بالابتذال. كانوا يتصرفون مثل “البرابرة الدنيئون”. من الواضح أنهم لا يعرفون شيئًا عما يعنيه أن يكونوا رجالًا، ولا يمكن للوهلة الأولى أن يكونوا ليبراليين. بعبارة أخرى، تمسك بورك بالمعنى الأرستقراطي القديم للكلمة واستخدمها لمهاجمة النواب الفرنسيين. لم يكونوا سوى متوحشين وخونة عازمين على إحداث الفوضى لتحقيق مكاسب شخصية وتوقع كارثة لفرنسا.
ولقد وبخ القراء البريطانيون لمجلة “تأملات” والمتعاطفون مع الثورة الفرنسية، وبخوا بورك على إهاناته وادعاءاته. وأثارت إشارته إلى الجمهور المخدوع ردود فعل عنيفة، فقد وبخته المؤرخة كاثرين ماكولاي لافتقاره للصفات ذاتها التي كان من المفترض أن يدافع عنها. لم يكن هو نفسه ليبراليًا. (ماري ولستونكرافت)، التي سرعان ما أصبحت معروفة كمدافعة عن حقوق المرأة، شجبت تحيز بيرك الأرستقراطي ورفضه اعتناق القيم الليبرالية، مستخدمًا المصطلح بالطريقة الجديدة. لكن الفيلسوف السياسي والناشط (توماس باين) أصاب حقًا قلب الموضوع عندما جادل، في الجزء الأول من حقوق الإنسان التي تحظى بشعبية كبيرة، بأن الميول الأرستقراطية لبورك جعلته غير حساس تمامًا للتمييز المهم للغاية بين “الأشخاص” و “المبادئ”. ثم أدرك (باين) أن القضية لم تعد تتعلق بما إذا كان فرد أو مجموعة من الأفراد ليبراليين، ولكن ما إذا كانت المبادئ التأسيسية للأمة تعكس ذلك.
بحلول الوقت الذي ظهر فيه الجزء الثاني من كتيب (باين) عام 1792، كانت الجمعية الوطنية الفرنسية قد أقرت إصلاحات إضافية. تمت الموافقة على دستور في عام 1791، والذي أنشأ نظامًا ملكيًا محدودًا بمجلس واحد وأعطى حق التصويت لجميع الذكور البيض البالغين الذين تزيد أعمارهم عن خمسة وعشرين عامًا والذين دفعوا ما يعادل أجر ثلاثة أيام كضرائب مباشرة. على الرغم من عدم منح المرأة حق التصويت، إلا أن القوانين الجديدة شرعت الطلاق، ووسعت حقوق المرأة في الميراث، ومكنتها من الحصول على الدعم المالي للأطفال غير الشرعيين. الجمعية أيضا أصلحت النظام الضريبي وسنت قوانين لإنهاء العوائق الإقطاعية للاقتصاد، وألغت النقابات وفككت التعريفات الداخلية والاحتكارات التجارية، كما خفضت القيود على الواردات. وبعد نشوب الثورة في سان دومينغو، ألغت العبودية في المستعمرات، بالنظر إلى هذه المرحلة المبكرة من الثورة، أثنت الكاتبة السويسرية مدام دي ستيل على النواب لأنهم منحوا فرنسا “المؤسسات الليبرالية” اللازمة لضمان الحرية المدنية للجميع. وبذلك، أحيت ذكرى ووضعت ختمها الخاص بالموافقة ليس فقط على الإصلاحات ولكن أيضًا على المعنى الجديد واستخدام كلمة “ليبرالي”.
لكن كان للمؤسسات الليبرالية أعداء أقوياء، ولم يكن أي منهم أقوى من الكنيسة الكاثوليكية ونظام بوربون الملكي. في ربيع عام 1791، اتخذ البابا بيوس السادس قرارًا بالغ الأهمية، حيث قرر إدانة الثورة بالجملة. في ملخصه البابوي Quod aliquantum استهدف مباشرةً إعلان حقوق الإنسان والدستور المدني لرجال الدين وأدان كلا المحاولات الشريرة لتدمير الكنيسة وإحداث الفوضى. بعد ثلاثة أشهر، في قرار ذي صلة له نتائج بعيدة المدى، حاول لويس السادس عشر الفرار من بلاده للانضمام إلى نبلاء المهاجرين في النمسا الذين كانوا يخططون للثورة المضادة. ترك وراءه ملاحظة تدين جميع الإصلاحات الأخيرة. تم القبض على الملك بينما كان على وشك عبور الحدود، وتم اعتقاله وإعادته إلى باريس وسجنه. أثارت محاولته الهروب اتهامات بالخيانة أدت في النهاية إلى إعدامه في عام 1793.
يتحدث المؤرخون اليوم عما حدث بعد ذلك على أنه انحراف للثورة عن مسارها: المرحلة الأولى المعتدلة والسلمية نسبيًا أفسحت المجال لمرحلة ثانية أكثر راديكالية وأكثر عنفًا. تتم مناقشة أسباب الانحراف عن المسار، ولكن ما لا جدال فيه هو أن تصاعد العنف – والضغط المتكرر على الأحداث التي تسببها الحشود الغاضبة – أساء إلى الثورة إلى حد كبير. في غضون أشهر، تمت الإطاحة بالنظام الملكي القديم في فرنسا واستبداله بـجمهورية. حوكم الملك والملكة وأعدما بتهمة الخيانة. أسفرت حرب استنزفت بالكامل عن مقتل مئات الآلاف. في الغرب، وتحولت الانتفاضة الملكية إلى حرب أهلية دموية أسفرت عن فظائع وسقوط عدد لا يحصى من الضحايا من كلا الجانبين. قتل الإرهاب ضد “أعداء الشعب” آلاف آخرين بالمقصلة. بالنسبة للنقاد، لم تكن هذه المرحلة انحرافًا للثورة عن مسارها، بل كانت نتيجة منطقية لها. لم تؤد “المبادئ الليبرالية” إلا إلى الفوضى. بدت مخاوف وتوقعات بيرك وكأنها تتحقق.
واقتناعا منهم، أن الكنيسة الكاثوليكية كانت أقوى عدو لهم، شن المتطرفون حملة لنزع الثقافة السائدة، وأجبر الآلاف من الكهنة على الاستقالة أو تعرضوا للسجن أو القتل أو دفع إلى الاختباء أو المنفى، وتم حظر العبادة العامة وإزالة العلامات المرئية للمسيحية، وتعرضت الكنائس والمعالم الدينية والصور للتخريب والتدمير. تمت إعادة تسمية المدن والشوارع والساحات العامة لمحو أي ذكر للقديسين والملوك والملكات والنبلاء، وتم استبدال التقويم الغريغوري بتقويم جمهوري يؤسس أسبوعًا من عشرة أيام بدون سبت مسيحي ويعلن بداية توقيت الزمن بتقويم مختلف ينطلق بتأسيس الجمهورية الفرنسية بدلاً من ولادة المسيح. بذلت محاولات منسقة لاستبدال الاحتفالات المسيحية بالاحتفالات المدنية. في باريس، تم تغيير اسم كاتدرائية نوتردام إلى معبد العقل. اعترافًا بعدم وجود فرق بين المرحلتين الليبرالية والراديكالية للثورة، شجبها المنظر المعادي للثورة جوزيف دي مايستر بطريقة من شأنها أن يتردد صداها لأكثر من قرن. لقد كانت، بكل بساطة، “شيطانية”.
المبادئ الليبرالية لبنيامين كونستانت ومدام دي ستيل
انتهى عهد الإرهاب في صيف عام 1794عندما جرى خلع واعدام أبرزهم، ماكسيميليان روبسبير، بعد مرور عام، وصل الزوجان السويسريان بنجامين كونستانت ومدام دي ستيل إلى باريس، وسرعان ما رسخا نفسيهما كشريكين دامت لمدة سبعة عشر عامًا، واللذين رداً على الظروف الملحة التي أحدثتها الثورة، صاغا مجموعة الأفكار التي أصبحت تُعرف مجتمعة باسم “الليبرالية”.
ولدت مدام دي ستيل آن لويز جيرمين نيكر، ابنة جاك نيكر، وهو مصرفي سويسري شهير من جنيف وعمل وزيراً للمالية في عهد لويس السادس عشر خلال السنوات الأخيرة من الحكم الملكي الفرنسي، وكانت شابة موهوبة وذات نضج مبكر، وقد تعرضت لأفكار التنوير في صالون والدتها في باريس، التي جذبت النخبة الفكرية والسياسية في المدينة. عندما التقت مدام دي ستيل بكونستانت في عام 1794، كانت متزوجة من السفير السويدي في فرنسا، إريك ماغنوس دي ستايل هولشتاين، وكانت تدير صالونها الباريسي للنخبة الفكرية والسياسية في المدينة، ومن ضمنهم لافاييت، الذي كانت تعرفه منذ الطفولة، بالإضافة الى توماس جيفرسون. لقد كانت بالفعل مؤلفة ومشهورة، وكانت منغمسة تمامًا في المناقشات السياسية في ذلك الوقت ومصممة على ان تلعب دور فيها.
من ناحية أخرى، كان بنيامين كونستانت مجهولًا، لقد وُلد في لوزان لقبطان في الجيش السويسري في خدمة (المقاطعات المتحدة )، وقد أظهر علامات مبكرة على امكانياته الفكرية، وتم إرساله للدراسة أولاً في جامعة إرلنغن في بافاريا ثم جامعة إدنبرة. في إدنبرة كان قد تشرب فلسفة التنوير الأسكتلندي وتكون لديه اهتمامًا عميقًا بدراسة الدين. عندما اندلعت الثورة، كان يعمل كأمين خزانة في بلاط دوق برونزويك- ولفنبيتيل، حيث كان يشاهد الأحداث الجارية من بعيد. ثم في وقت لاحق، تذكر كونستانت أنه خلال هذه الأيام المبكرة والمثيرة، أطلق على نفسه لقب ديمقراطي ودافع عن روبسبير، ولكن كل هذا سيتغير سريعا. اذ مثلما جرى مع مدام دي ستيل
كان كونستانت حريصًا ايضا على لعب دور في الأحداث الدرامية التي أخذت تتكشف في باريس.
عند لقائه دي ستيل في خريف عام 1794، وقع كونستانت فورا في الحب وتودد لها بشدة لدرجة أنها استسلمت في النهاية، وبدأ الاثنان ما كان مفترضا أن يكون علاقة حب طويلة وعاصفة. وعلى الرغم من حياتهم الرومانسية المضطربة، حافظوا على شراكة فكرية وسياسية دائمة لما يقرب من عقدين. كانوا قريبين جدًا لدرجة أنه من المستحيل أحيانًا التمييز بين من كتب ماذا.
مغرمة من قبل مدام دي ستيل وطموحها للشهرة، رافقتها كونستانت إلى باريس في ربيع عام 1795، ووصلت إلى المدينة بعد شهرين فقط من سقوط روبسبير. كان الجو السياسي في المدينة متوتراً ومستقطباً، والحكومة محاصرة بالتطرف يميناً ويساراً. على اليسار، كان اليعاقبة الجدد الذين لا يمكن التوفيق بينهم محبطين بنهاية الإرهاب. وانضم إليهم البابوفيون الذين طالبوا بإلغاء الملكية الخاصة. على اليمين، كان الملكيون المتشددون والمهاجرون الغاضبون يخططون للإطاحة بالنظام. في مجموعة من الكتيبات الرائعة التي أطلقت مسيرته المهنية، دافع كونستانت عما اعتبره هو ودي ستيل الإنجازات الأساسية للثورة وكان من بين الأوائل في فرنسا الذين أطلقوا تسمية “المبادئ الليبرالية”.
في هذه المرحلة المبكرة من حياته المهنية، لم يحدد كونستانت بالضبط الأفكار والمؤسسات السياسية التي كان يقصدها بالمبادئ الليبرالية. ولم يستخدم هو أو مدام دي ستيل كلمة “ليبرالية”، وهو مصطلح لم يُصاغ بعد. فقط بالتدريج سيكتشفون مجموعة المبادئ التي نعترف بها الآن باسم “الليبرالية”. ومع ذلك، هناك بعض الأشياء الواضحة. أراد كلاهما تعزيز وحماية الإنجازات الرئيسية للثورة من خلال منع كل من الثورة المضادة وعودة الإرهاب. والأكثر إلحاحًا، كان من الضروري استعادة السلام والهدوء لفرنسا. وهكذا بدأ التفكير الذي أدى إلى ابتكارالليبرالية.
لقد نشأت الليبرالية وتمت صياغتها في محاولة للحفاظ على إنجازات الثورة الفرنسية وحمايتها من قوى التطرف سواء من اليمين أو اليسار، او من فوق أو من أسفل. في عام 1795، عندما وصل كونستانت ومدام دي ستيل إلى باريس، كانت “المبادئ الليبرالية” تعني الدفاع عن الحكومة الجمهورية القائمة من هجوم الثورة المضادة. كانت تعني دعم سيادة القانون والمساواة المدنية، والحكومة الدستورية والتمثيلية، وغيرها من الحقوق، من بينها حرية الصحافة وحرية الدين. أبعد من ذلك، كان ما تعنيه المبادئ الليبرالية غامضًا إلى حد ما وقابل للنقاش.
نقطة اخرى لا بد من توضيحها: أن تكون ليبراليًا لا يعني أن تكون ديمقراطيًا. لقد اعتدنا اليوم على الحديث عن “الديمقراطية الليبرالية” بحيث يسهل الخلط بين المصطلحين. لكن خلال هذه الفترة المبكرة، عندما ولدت الليبرالية، غالبًا ما كانت المبادئ الليبرالية والديمقراطية تتعارض مع بعضها البعض. وبالتأكيد، لا كونستانت ولا دي ستيل كانا ديمقراطيين بالمعنى المقصود للكلمة. أكد الرعب فقط وجهة نظرهم بأن غالبية الفرنسيين (ناهيك عن النساء) غير مستعدين تمامًا للحقوق السياسية. أظهرت الحشود المسيسة نفسها مرارًا وتكرارًا أنها غير عقلانية وغير منضبطة وعرضة للعنف. وكما هو الحال في دستور 1791، تضمن دستور عام 1795 الذي دافع عنه كونستانت ومدام دي ستيل حيازة متطلبات صارمة لكل من سيشغل منصبا اويمارس التصويت. ووفقًا لمدام دي ستيل، فقد دافعوا عن “الحكومة الأفضل” والتي لا ينبغي الخلط بينها وبين الديمقراطية.
ولا يتعلق كونك ليبراليًا بالترتيبات الدستورية وحدها، اذ لا يزال المعنى الأساسي للكلمة يشير إلى مجموعة من القيم الأخلاقية والمدنية، مثل الشهامة والكرم والانفتاح والتسامح، وهي قيم اختفت فعليًا خلال المرحلة الراديكالية للثورة. في البداية، اعتقد بعض الثوار بسذاجة أن إسقاط النظام القديم من شأنه أن يطلق بشكل عفوي التجديد الأخلاقي بمجرد التخلص من أغلال الملكية والأرستقراطية والكنيسة الكاثوليكية، وبحسب رأيهم، فإن البشرية ستعود إلى طبيعتها. ومع ذلك، فقد بدا أن العكس قد تحقق. لقد أطلقت الثورة العنان لعواطف رهيبة بحيث بدت الأخلاق العامة أسوأ وليس أفضل.
لم يكن الفقراء المسيسون هم المشكلة الوحيدة. وكل ما استطاعت مدام دي ستيل رؤيته من حولها، كما قالت، هو فساد وأنانية الطبقات العليا. وكتبت: “ما نحتاجه هو حاجز ضد الأنانية”. “كل القوة الأخلاقية لكل رجل تتركز على مصلحته الشخصية” وبينما كان الشتاء البارد وارتفاع أسعار المواد الغذائية يتسببان في معاناة الفقراء التي لا يمكن تصورها، كان أولئك الذين يجنون ثروات يمدون الجيوش الثورية أو المضاربين على بيع أراضي الكنيسة ويشبعون شهواتهم باستهلاك يفتخرون به وبالعروض الصارخة. خلال شتاء عام 1795، انتحرت الأمهات القادرات على إطعام أطفالهن بالقفز إلى نهر السين، بينما تباهى الأثرياء الجدد بثرواتهم في حفلات العشاء الفخمة. بالنسبة إلى دي ستيل، فإن وجود مبادئ ليبرالية يعني إظهار اللطف والكرم والرحمة، والتي بدونها ستدمر فرنسا إلى الأبد.
كانت رواياتها تهدف إلى تنمية ونشر هذه الفضائل الضرورية. كما أوضح كونستانت لاحقًا، كان الهدف من كتب مدام دي ستيل تعزيز “المشاعر اللطيفة والنبيلة [و] السخية”. وفي أماكن بعيدة مثل أمريكا، تحدثت المثالية مارغريت فولر عن آثارها الأخلاقية الإيجابية.
التركيز على توجه الأخلاق يفتح المجال امام تدخل الدين؛ هذا يعرفه الجميع. لكن هنا واجه “أصدقاء الحرية” مشكلة خطيرة. تقليديا، كانت الكنيسة الكاثوليكية تقوم بتدريس الأخلاق في فرنسا. بالنسبة لليبراليين مثل مدام دي ستيل وبنيامين كونستانت، فإن دعم الكنيسة المستمر منذ قرون للملكية المطلقة والنظام القمعي القائم على التسلسل الهرمي والامتيازات التي ترافقها حرمها من هذا الدور. الكنيسة ببساطة لا يمكن أن تكون موضع ثقة في عملية تعزيز التجديد الأخلاقي للجمهورية. وهذا أيضًا يفسر جزئيًا سبب استمرار حملة إزالة المسيحية خلال حكومة المديرين ولماذا جرت مناقشات حية حول ما يمكن أن يحل محل الكاثوليكية في مهمة نشر الأخلاق في فرنسا.
وشاركت مدام دي ستيل وبنيامين كونستانت في هذه المناقشات الحماسية. كلاهما كان لهما خلفيات بروتستانتية مستنيرة، كونستانت كان قد درس اللاهوت الليبرالي في ألمانيا، وتحت تأثيره، كان قد بدأ للتو عملًا كبيرًا في الدين. واعتقد كلاهما أن الكاثوليكية كانت ديانة قديمة وعائقًا أمام مبادئهما السياسية، ثم إن عقائدها الخرافية وتأكيدها على إثم الإنسان لا يمكن أن تعزز التحسن والتقدم الأخلاقي؛ وبدلاً من ذلك كان يشجع ما أسماه كونستانت “الانكماش الأخلاقي” و “الذهول”، اذ جعل الفرنسيين مؤمنين بالخرافات، وسلبيين، وضعفاء. كتبت دي ستيل في عام 1798، أنه بدون تغيير الدين، لا يمكن للجمهورية أن تحيا
ليس من المستغرب أن هذه الأفكار أثارت ردود أفعال غاضبة. يمكن أن يدافع كونستانت ودي ستيل عن الثورة، ويدعموا (حكومة المديرين)، ويطلقون على مبادئهم تسمية ليبرالية وأن يعتبروا خصومهم الملكيين بمثابة وصمة عار. كانوا يأخذون مصطلحًا يرتبطً تقليديًا بالقيم المسيحية والأرستقراطية ويستخدمونه ضدهم. كانت الثورة التي كانوا يدافعون عنها قد أعدمت ملكًا، وجردت النبلاء من الامتيازات القديمة، وصادرت الكنيسة الكاثوليكية. علاوة على ذلك، استمرت الحكومة التي كانوا يدعمونها في متابعة حملة وحشية لانتزاع المسيحية وكانت تستخدم القوة العسكرية لقمع المظاهرات الملكية السلمية.
والحقيقة هي أنه ليس كل الكاثوليك يعتقدون أن دينهم لا يتوافق مع المبادئ السياسية الليبرالية. تقدم عدد قليل من القادة الكاثوليك، بمن فيهم آبي هنري غريغوار، وأصروا على عكس ذلك، وكان هنري جمهوري ملتزم من المنطقة في لورين، أدى غريغوار القسم على الدستور المدني لرجال الدين، وانتُخب أسقفًا، ثم عمل بلا كلل لبناء كنيسة كاثوليكية دستورية جديدة صديقة للمبادئ الثورية. انتخب في المؤتمر الوطني الذي انعقد في عام 1792، وقد نجا بطريقة ما من الإرهاب، وتحت (حكومة المديرين)، خدم في مجلس الخمسمائة. احتفل غريغوار في جريدته، Annales de la din ، بالنظام السياسي المولود من الثورة وجادل بأن الكاثوليكية كانت “في انسجام تام مع المبادئ الليبرالية”.
يبدو أن الحقائق على الأرض تثبت خلاف ذلك. اجتذبت كنيسة غريغوار الدستورية عددًا قليلاً من أتباعها، بينما نمت كنيسة معادية للثورة تحت الأرض بشكل كبير. لكن غريغوار افتتح ما يمكن أن يكون نقاشًا طويلًا وساخنًا حول علاقة الكاثوليكية بالمبادئ الليبرالية. هل كان من الممكن، كما يتساءل الناس، أن تكون كاثوليكيًا وليبراليًا؟ ما هي العلاقة بين الدين والليبرالية؟
وصول نابوليون
على الرغم من كل الجهود التي بذلوها، لم تتحقق آمال دي ستيل وكونستانت. كانت (حكومة المديرين) غير قادرة على تحقيق الاستقرار في فرنسا. وفي عام 1799، توقفت جهودها بسبب انقلاب نابليون بونابرت. لقد دفع الخوف من الثورة المضادة والحرب الأهلية الآن العديد من الناس، بما في ذلك دي ستيل وكونستانت ، إلى دعم نابليون، على أمل أن يعزز ويحمي المبادئ الليبرالية ويصل بالثورة إلى نهاية سلمية.
في البداية، بدت الأمور جيدة، في اليوم التالي لانقلابه، وفي إعلانه الشهير الآن عن ” التاسع عشر من برومير”، وعد بونابرت بالعمل دفاعًا عن “الأفكار المحافظة والوقائية والليبرالية” واعتبر العديد ان المقصود هو
استعادة السلام والحفاظ على منجزات الثورة والحماية من الثورة المضادة، فقد لاحظت صحيفة LAmi des Lois أنه “من فم بونابرت، الأفكار الليبرالية لها معنى آخر يختلف عن الذي يصدر من فم الأرستقراطيين”.
في دعمهم لنابليون، لم يعتقد الليبراليون مثل دي ستيل وكونستانت أنهم يخونون مبادئهم الخاصة. في هذه اللحظة، وصفت مدام دي ستيل نابليون بأنه “أفضل جمهوري في فرنسا وأكثر الفرنسيين ليبرالية “. لكن سرعان ما أصيبوا بخيبة أمل، اذ في وقت مبكر من عام 1801، كتب لافاييت حزينًا إلى توماس جيفرسون ليقول إن الوضع في فرنسا قد تغير بشكل جذري نحو الأسوأ. تم سحق “البذور الليبرالية” التي زرعت في وقت مبكر من الثورة. بنيامين كونستانت، الذي حصل على مقعد في “منبر” نابليون في عام 1799، استخدم منصبه للتنديد بإجراءات نابليون وتمت إقالته بإجراءات سريعة. كما ان مدام دي ستيل جعلت مهمتها الآن الكشف على ان حكمه “نظام وحشي من الاستبداد”، وأجبرت الى المنفى حيث رافقها بنيامين كونستانت.
لقد داس نابليون على المبادئ الليبرالية بعدة طرق. قام بمراجعة الدستور الفرنسي، ووضع كل السلطات الحقيقية في يديه، وزاد من مركزية الإدارة الفرنسية بنظام من المحافظين المسؤولين مباشرة أمامه. فور توليه السلطة تقريبًا، أعلن أن الكاثوليكية ضرورية “لتقوية أسس الحكم الصالح”، وبدأ مفاوضات مع البابا من أجل استعادة الكنيسة. أدت هذه المناقشات إلى ابرام مواثيق عام 1801، والتي حول بها الكنيسة إلى حليف فعال ومؤيد لنظامه الاستبدادي المتزايد.
أعطى الدستور الجديد جميع الرجال حق التصويت، لكن الانتخابات تمت إدارتها والتلاعب بها بعناية. أغلق نابليون تسعة وستين من أصل ثلاث وسبعين صحيفة باريسية وحول ما تبقى منها إلى أجهزة حكومية. أغلق النوادي السياسية واستخدم الجواسيس والمخبرين لإقناع أي معارضة، كما أمر العملاء السريين بتعقب كونستانت ودي ستايل. في عام 1802، أعاد العبودية في المستعمرات، وفي 1803، عدل قانون الطلاق وجعله مقيدًا بشكل خاص للنساء. وبالطبع واصل حروب الفتح والنهب.
حاولت الدعاية النابليونية نشر فكرة أنه كان “بطل الأفكار الليبرالية”، ولهذا السبب، انتشر المصطلح أينما ذهبت جيوشه وقد ذكرت الصحف الإيطالية في البداية أن “الرجال الليبراليين” رحبوا بالجنود الفرنسيين بحماس، على أمل أن يساعدوا في تحرير إيطاليا من القهر السياسي ورجال الدين. ومع ذلك، عندما بدأت جيوش نابليون في نهب المناطق “المحررة” في أوروبا، ومع تزايد قمع القادة الذين عينهم هناك، بدأ الناس يغيرون رأيهم. دارت مناقشات في جميع أنحاء أوروبا حول ما يجعل الفرد ليبراليًا حقيقيًا مقابل الفرد المزيف، هل يمكن أن يكون المرء ليبرالياً و “نابليوناً” في نفس الوقت؟ ذكّر قاموس إيطالي الناس بأن كونك ليبراليًا يعني إظهار الكرم والإحسان وحب الحرية. في السياسة، كان يعني أن تكون مؤيدًا للحكومة الدستورية. وفقًا لهذا التعريف، لم يكن بونابرت وجنوده “ليبراليين”.
استمرت خيانات نابليون، ففي عام 1804، توج نفسه إمبراطورًا في حضور البابا وأساقفة فرنسا المجتمعين. بعد بضع سنوات، أسس جامعة إمبراطورية تحت سيطرة الدولة المركزية. من الآن فصاعدًا، من شأن التعليمات أن تعزز الولاء للإمبراطور وسلالته، والتي، وفقًا للوثائق التأسيسية للجامعة، كانت وحدها تحمي “الأفكار الليبرالية المعلنة في الدستور”.
في الحقيقة، أنشأ نابليون نوعًا جديدًا من النظام الاستبدادي الذي سخر من كل شيء قاتل من أجله كونستانت ودي ستايل وآمنا به.
شيء غير مسبوق عن الديكتاتورية التي كان يخلقها، اخترع نقاد نابليون كلمات جديدة له. دعاها كونستانت “اغتصاب”. قد يسميها الآخرون “بونابارتيسم” وفي النهاية “قيصرية”. كان واضحًا لهم أنها ليست ليبرالية، وهذا حث كونستانت على توضيح ما هو النظام الليبرالي حقًا وما هي القيم التي يجب أن تمثلها.
رأى الكثيرون في سياسات الإمبراطور الاقتصادية على أنها انتهاك آخر للمبادئ الليبرالية. سرعان ما انتشر الخبر أنه يفكر في إعادة الاحتكارات والمحظورات ورفع الرسوم الجمركية والضرائب، ودفع هذا الموقف جان بابتيست ساي، أبرز تلاميذ آدم سميث الفرنسيين، لكتابة أطروحة حول الاقتصاد السياسي. استخدم أفكار آدم سميث لمهاجمة سياسات نابليون، وانتقد بشدة التعريفات والمحظورات ودعا إلى ما أسماه المبادئ الليبرالية للتجارة، مشددًا على مزايا معاملة جميع الدول كأصدقاء، علاوة على ذلك، أعرب عن رفضه الشديد للنظام الاستعماري القائم ليس فقط على المحظورات والتعريفات، ولكن على العبودية، التي سماها “طريقة استغلال عنيفة”، لقد كان نظامًا بغيضًا أخلاقياً، كما كتب، وأفسد السيد والعبد. لقد أعطت بعض المزايا الاقتصادية الحقيقية لأي شخص، في حين أنها شكلت ضريبة غير عادلة على الناس. نُشرت هذه الأطروحة حول الاقتصاد السياسي عام 1803، وحققت نجاحًا كبيرًا في مجال النشر. تمت ترجمته بسرعة إلى اللغة الإنجليزية وجرى تدريسه في إنجلترا والولايات المتحدة، مما أدى الى انتشار الأفكار المبكرة للاقتصاد السياسي الليبرالي.
وليس غريبا، أن كتاب ساي أثار غضب نابليون، الذي طالبه بمراجعته أو إخضاعه للرقابة، وعندما رفض ساي، تم فصله من المحكمة، التي تم تعيينه فيها مع كونستانت في عام 1799، كما مُنع ساي من النشر خلال الفترة المتبقية من عهد نابليون، ولمواجهة أفكاره، شجع الإمبراطور على نشر الكتب الملائمة للرسوم الجمركية والنظام الاستعماري، كالتركيز على شركة Frangois Ferriers عن الحكومة في علاقاتها التجارية لعام 1805. حيث أصبح (فيرير) فيما بعد مديرًا للجمارك في نابليون. وقد سخر في كتابه علانية من أفكار سميث وساي، ورفضها على أنها ليست سوى تخيلات ساذجة، كما انتهز (فيريير) الفرصة للتنديد بالثورة باعتبارها كارثة مروعة، وأخبر صديقه أن الفرنسيين كانوا مثل الأطفال المدللين، يجب أن يحكموا بسلامة صارمة، وأعيد إصدار الكتاب عدة مرات، والذي فقط عزز في أذهان الناس العلاقة الوثيقة بين الرسوم الجمركية، والنظام الاستعماري، والحكم الاستبدادي، حيث أصبح من الواضح لهم أن سياسة التجارة الليبرالية والسياسة الليبرالية متلازمتان.
كما خان نابليون السياسة الليبرالية بطريقته التي تلاعب بها وأغوى الجماهير، كذلك رأى الليبراليون في شعبيته المصطنعة دليلاً آخر على عدم نضج الجماهير وعدم عقلانيتهم وسذاجتهم. لقد كان دليلًا على التدهور الأخلاقي لفرنسا، الذي استفاد من خلاله الإمبراطور والذي بدوره ساهم في تفاقمه. كتب كونستانت أن نابليون “دمر] الأخلاق”. لقد رشى الناس بشرف وامتيازات ومكافآت مادية، بينما كان يصرفهم بالانتصارات العسكرية. في ظل الأنظمة الاستبدادية مثل نظام نابليون، “ينغمس الرجال في الأنانية”. يتحولون إلى الداخل، ويركزون على اهتماماتهم وملذاتهم الخاصة. والنتيجة كانت اللامبالاة الأخلاقية والسياسية “.
كانت الطريقة التي استخدم بها نابليون الدين لدعم نفسه محزنة بشكل خاص، فقد حضر كل أسقف فرنسي تقريبًا مراسم تتويج نابليون ودعم نظامه. بلغ التحالف بين الكنيسة الكاثوليكية والدولة النابليونية ذروته في التعاليم الإمبراطورية المسيحية عام 1806 والتي نصت على أن الإمبراطور هو “مسيح الرب” وأن مقاومة النظام السياسي “الذي وضعه الله نفسه” من شأنه أن يجعل الشخص “مستحقًا لعنة أبدية”.
لم يتخلَّ الليبراليون عن أملهم في استبدال الكاثوليكية منذ أن أضعفت الثورة الكنيسة الفرنسية إلى حد كبير، وقالوا إن ما تحتاجه فرنسا ليس الكاثوليكية بل دينًا مستنيرًا يعزز صفات العقل والشخصية اللازمة للمواطنة الصالحة، لقد فضل كونستانت ومدام دي ستيل شكلاً ليبراليًا من البروتستانتية، ولم يكونوا وحدهم، في هذا التصور. في عام 1803، أجرى معهد فرنسا المرموق مسابقة في كتابة المقالات طُلب فيها من المتنافسين تقييم الآثار طويلة المدى للإصلاح البروتستانتي. بعد وقت قصير من إبرام نابليون لمواثيق الأيمان الكنسية، كانت فرصة للمشاركين لتقييم هذا الاتفاق. لم يكن من قبيل الصدفة أن تُمنح الجائزة الأولى لمقال دعا إلى شكل ليبرالي من البروتستانتية وحذر من الآثار الضارة للكاثوليكية.
كان مؤلف المقال تشارلز دي فيلير، صديق مدام دي ستيل. وُلد فيلير في فرنسا ونشأ كاثوليكيًا، وهاجر إلى ألمانيا خلال الثورة. في جامعة جوتنجن ، وهي مركز مشهور للدراسات الكتابية ، تم إقناعه ببعض الأفكار الألمانية الأكثر تقدمًا في الدين ، والتي نقلها الآن إلى جمهوره الفرنسي، ويمكن إرجاع بعض هذه الأفكار إلى يوهان سالومو سيملر ، الذي ، كما أشرنا في الفصل السابق ، صاغ مصطلح “اللاهوت الليبرالي” في عام 1774.
طرح مقال فيليرز سؤالاً جوهريًا: هل يمكن للمبادئ السياسية الليبرالية أن تستمر دون دعم المبادئ الدينية الليبرالية؟ كانت إجابته لا. وحذر من المخاطر التي تشكلها الكاثوليكية المتحالفة مع الدولة. وكتب أن ما تحتاجه فرنسا لم يكن دينًا رجعيًا يشجع الخرافات واللامبالاة الفكرية والاحترام المستعبد للسلطة بل “الأفكار الليبرالية للبروتستانتية”. فقط البروتستانتية شجعت التفكير النقدي وحب الحرية الضروريين للمواطنة. جادل فيليرس بأن البروتستانتية الليبرالية شجعت القيم التي تؤدي إلى دعم المبادئ الأخلاقية والسياسية الليبرالية. نُشر مقال فيليرز عام 1804 وأعيد إصداره ثلاث مرات. أعجب جيمس ميل، والد جون ستيوارت، كثيرًا لدرجة أنه نشر نسخة باللغة الإنجليزية عام 1805، وكتب لها مقدمة إشادة.
من غير الواضح عدد الأشخاص الذين اعتقدوا أن فرنسا يمكن أن تتحول إلى بروتستانتية ليبرالية. على أي حال، لقد تم اقتراح فكرة جعله دين الدولة في فرنسا على الإمبراطور، لكنه رفضها. وبدلاً من ذلك، حدث إحياء كاثوليكي، بتشجيع من دعاة مناهضين للثورة مثل لويس دي بونالد وجوزيف دي مايستر، قاد هؤلاء الرجال حملة تشهير منسقة ضد دعاة المبادئ الليبرالية بينما كانوا يدعون إلى طاعة النظام القائم، ووجد الكاثوليك مثل آبي غريغوار أنفسهم في موقف صعب للغايةـ ولكن تأكد فقط في أذهان العديد من الناس أن الكاثوليكية والمبادئ الليبرالية للحكومة غير متوافقة.
الأحزاب الليبرالية وولادة الليبرالية
في حين أن سياسات نابليون الداخلية غير الليبرالية تسببت في قيام الليبراليين الفرنسيين بتطوير أفكارهم وصقلها، أدت حروبه إلى ظهور الأحزاب الليبرالية الأولى، وفي عام 1805، قاد الملك السويدي غوستاف الرابع أدولف، وهو يمثل ملكية مطلقة وعدوًا قويًا للثورة الفرنسية، ودخلت بلاده في حالة حرب مع فرنسا، وعلى الرغم من فوز السويد في المعركة، و تبعتها الحروب مع حلفاء فرنسا ، روسيا والدنمارك، فخسرت السويد مساحة كبيرة من الأراضي. وغير راضين عن قيادة ملكهم، قامت دائرة من كبار المسؤولين الحكوميين بانقلاب في القصر وعزلته في عام 1809. في هذا الوقت تقريبًا ظهرت إلى الوجود مجموعة تطلق على نفسها اسم “الحزب الليبرالي”. لا يُعرف الكثير عن أعضائها إلا أنهم تأثروا بالأفكار الثورية الفرنسية ودافعوا عن مبادئ مثل المساواة أمام القانون والحكومة الدستورية والتمثيلية وحرية الصحافة والضمير والتجارة، وكانوا يُعرفون أيضًا باسم “الجانب الليبرالي” ، أو فقط “الليبراليون
في حين أن سياسات نابليون الداخلية غير الليبرالية تسببت في قيام الليبراليين الفرنسيين بتطوير أفكارهم وصقلها، أدت حروبه إلى ظهور الأحزاب الليبرالية الأولى، وفي عام 1805، قاد الملك السويدي غوستاف الرابع أدولف، وهو يتزعم ملكية مطلقة وعدوًا قويًا للثورة الفرنسية وكان السويد في حالة حرب مع فرنسا، وعلى الرغم من فوز السويد في المعركة ،ثم تبعتها الحروب مع حلفاء فرنسا، روسيا والدنمارك ، وخسرت السويد مساحة كبيرة من الأراضي.، ولكونهم غير راضين عن قيادة ملكهم، قامت دائرة من كبار المسؤولين الحكوميين بانقلاب في القصر وعزلته في عام 1809. في هذا الوقت تقريبًا ظهرت إلى الوجود مجموعة تطلق على نفسها اسم “الحزب الليبرالي”. لا يُعرف الكثير عن أعضائها إلا أنهم تأثروا بالأفكار الثورية الفرنسية ودافعوا عن مبادئ مثل للمساواة أمام القانون والحكومة الدستورية والتمثيلية وحرية الصحافة والضمير والتجارة. وكانوا يُعرفون أيضًا باسم “الجانب الليبرالي”، أو فقط “الليبراليون”. “.
ظهر الحزب الليبرالي الإسباني بعد فترة وجيزة من غزو جيوش نابليون لإسبانيا عام 1808، حيث تم خلع الملك الإسباني فرديناند، واستبداله بشقيق نابليون، جوزيف، ولكن سرعان ما تمرد الإسبان وشكلوا حكومة في قادس. وفي عام 1810، أخذت مجموعة من المندوبين إلى البرلمان هناك، تسمى (الكورتيس)، اسم (ليبراليس) ووصفت خصومهم بالعبيد، من اللاتينية (سيرفي)، أي العبيد. دعا الليبراليون الإسبان، مثل الليبراليين السويديين، إلى مبادئ مثل المساواة أمام القانون والحكومة الدستورية التمثيلية. كتبت مدام دي ستيل بسعادة أن “الدافع الليبرالي” يجتاح أوروبا الغربية، وأثار الدستور الإسباني الجديد عددًا لا يحصى من التعليقات ليس فقط في أوروبا ولكن في الأمريكتين الإسبانية، حيث شجعت حركات الاستقلال التركيز على المنطلق المحلي لما يجب أن تعنيه المبادئ الليبرالية في الممارسة، وجرت المناقشات حول الدستور الإسباني في أماكن بعيدة مثل الهند والفلبين، وكانت، من بعض النواحي، متطرفة جدا حينها، اذ منحت حق التصويت “لجميع الرجال، باستثناء أولئك المنحدرين من أصل أفريقي، ” ، لتأسيس نظام أكثر ديمقراطية مما كان موجودًا في بريطانيا أو الولايات المتحدة أو فرنسا . ومن المثير للاهتمام، وعلى عكس الليبراليين في أي مكان آخر، لم يدافع الليبراليون الإسبان عن حرية الدين، بل نصت المادة 12 من دستورهم صراحةً على أن “ديانة الأمة الإسبانية هي، وستظل إلى الأبد، الديانة الكاثوليكية الحقيقية والرسولية والرومانية. الأمة تحميها بقوانين حكيمة وعادلة وتمنع من ان يفرض عليها ممارسات من قبل أي شخص آخر “.
سرعان ما تحطمت آمال الليبراليين الإسبان عندما سُمح لملكهم بالعودة إلى السلطة بعد مفاوضات مع نابليون، وبتشجيع من المحافظين وفي التسلسل الهرمي للكنيسة الكاثوليكية، أعلن أن مداولات الكورتيس غير قانونية وأن تشريعاتها لاغية وباطلة. بدعوى أن السيادة تكمن بالكامل في شخصه، فأعاد الحكم المطلق ومعه محاكم التفتيش، وتم إرسال ما يصل إلى اثني عشر ألف ليبرالي إلى السجن أو المنفى، وتم شن حملة تشويه ضد الليبراليين، وفي هذا الوقت تقريبًا ظهرت كلمة “ليبرالية” الى حيز الاستخدام.
تشير المظاهر الأولى للكلمة إلى اختراعها كمصطلح للإساءة، ولقد انجب الجزء الأول من القرن التاسع عشر عددًا غير عادي من هذه “المذاهب”، وتم استخدام هذه الكلمات الجديدة غالبًا لاتهام الناس بالهرطقات ، مثل Anabaptism ، Lutheranism ، أو Calvinism وفي الواقع كانت واحدة من أولى حالات استخدام كلمة “الليبرالية” الموجودة في المطبوعات، في صحيفة إسبانية صدرت بعد فترة وجيزة جدًا، مع ظهور الحزب الليبرالي عام 1813. تساءلت الصحيفة “ماذا تعني الليبرالية؟” ومضت لتشرح أن الليبرالية نظام “تأسس على [أفكار] جاهلة، سخيفة، معادية للمجتمع، مناهضة للملكية، مناهضة للكاثوليكية.” فالليبرالية كانت مجرد بدعة أخرى وكان من بين مبادئها الهرطقية مسألة تعزيزها للمساواة المدنية والحكومة الدستورية المسؤولة أمام الشعب، بدلا من ان تكون مسؤولة امام الملك أو الأرستقراطية أو الكنيسة.
بعد ما حصل في إسبانيا، لا عجب أن ينظر الليبراليون الفرنسيون بريبة إلى ملكهم البوربون، لويس الثامن عشر، عندما عاد من المنفى بعد هزيمة نابليون عام 1814 ووعدهم بمنحهم ما أسماه “ليبراليًا” الدستور “. سرعان ما أصبح الدستور الذي وضعه هو ومستشاروه موضوع نقاش ساخن. يُطلق عليه أيضًا اسم الميثاق، وقد أسس نظامًا تمثيليًا للحكومة واعترف بالمبادئ الليبرالية الأساسية مثل المساواة أمام القانون وحريات الصحافة والدين، ومع ذلك، فقد تركت المقالات ذات الصياغة الغامضة العديد من القضايا دون حل. كانت الحدود المحددة لسلطات الملك غير واضحة، وكذلك دور الجمعية التمثيلية ومدى الحرية الفردية التي يكفلها الدستور. كما احتوى الميثاق على عدد من التناقضات. اعترفت بحرية الدين، لكنها أعلنت أن الكاثوليكية هي الدين القومي. أعلنت حرية الصحافة، لكنها ذكرت أنه يمكن سن قوانين لتقييدها. وبينما جادل الليبراليون بأن الدستور الجديد يجب أن يُنظر إليه على أنه عقد اجتماعي بين الملك والأمة الفرنسية، قيل بدلاً من ذلك أن الدستور “يمنح” من قبل الملك كهدية لشعبه. وهذا، بطبيعة الحال، يشير إلى إمكانية شرعية إلغاء الميثاق. حفزت هذه العوامل، ووسّعت، وعمقت النقاشات حول ما يعنيه “الدستور الليبرالي” حقًا، المناقشات التي جذبت المعلقين من كل مكان.
اشتدت النقاشات حول الدساتير الليبرالية مع عودة نابليون من المنفى خلال ما يسمى مائة يوم (29 مارس – 8 يوليو 1815). هرب الإمبراطور السابق من أسره في جزيرة إلبا في 26 فبراير 1815، ونزل بالقرب من مدينة كان في جنوب فرنسا مع ما يقرب من ألف جندي وشق طريقه إلى باريس. وأثناء مسيرته، تلا خطابًا قويًا مناهضًا للإكليروس: “لقد جئت لإنقاذ الفرنسيين من العبودية التي يرغب فيها الكهنة والنبلاء، سوف اربطهم على أعمدة الإنارة! ” ورداً على ذلك، استُقبل بصرخات “يسقط الكهنة! يسقط الأرستقراطيون! لشنق البوربون! تحيا الحرية! ” وانضم إليه المزيد من الجنود وعندما اقترب من باريس رافقه ما بدا وكأنه جيش كامل. فر لويس الثامن عشر وعاد نابليون إلى السلطة. أعقبت عودة نابليون الدرامية مفاجأة أخرى، لقد وعد الآن بأن يحكم دستوريًا ولم يدعو سوى بنيامين كونستانت ، أحد أقوى رجاله ومعظم النقاد صريحين ، للمساعدة في صياغة ميثاق جديد
على الرغم من أن كونستانت قد هاجم نابليون بوحشية قبل أيام قليلة فقط، إلا أنه وافق على التعاون معه. كانت الوثيقة الناتجة تسمى القانون الإضافي لدساتير الإمبراطورية وأطلق عليها اسم Benjamine تكريما لمؤلفها. إن تقلب كونستانت في مسألة نابليون أكسبه لقب “الثابت المتقلب”، والذي ظل يلاحقه لبقية حياته.