…….ملفات الأسد السرية
خلال السنوات الأربعة الماضية استطاع فريق سرّي من المحققين المختصين بجرائم الحرب والعاملين لصالح جهة مستقلة تسمى “لجنة المساءلة والعدالة الدولية” ان يقوموا بتهريب مئات الألاف من وثائق السلطات السورية الى خارج البلاد، حيث نقلت بعدها الى مقر اللجنة المذكورة داخل أحد الأبنية في أوروبا الغربية، ثم باشرت مجموعة من المحللين والمترجمين والمحامين بالتدقيق فيها، فتوصلت اثر ذلك الى وضع مسودّة قانونية من 400 صفحة تابعت من خلالها التعذيب المنهجي وعمليات القتل التي طالت عشرات الألوف من السوريين وذلك تنفيذاً للتوجيهات المكتوبة والمصادق عليها من قبل الرئيس (بشار الأسد) مباشرة، والتي جرى التنسيق حولها بين الأجهزة الأمنية والمخابرات مع الأجهزة المنفذة التي تقوم عادة برفع تقاريرها حول مدى نجاح هذه الحملة الدموية الى المسؤولين في دمشق. لقد جرى دوماً في السابق نقل الأنباء عن قيام السلطات السورية بارتكاب اعمال التعذيب والقتل والاعتقال ضمن أوضاع وظروف غير إنسانية ولكنها لم تكن ترتبط بأوامر موقّع عليها كما هي الحال هنا.
أغلب هذه الوثائق انتزعت من داخل مقرّات أجهزة الأمن والمخابرات التي اجتاحها الثوار، وبعضها الآخر قام بسرقتها شاب مندس في لجنة الأمن العليا المحيطة بالرئيس الأسد. ان هذه القضية التي تسعى الى إنجازها “لجنة المساءلة والعدالة الدولية” هي على وشك الانتهاء من أجل رفعها الى المحكمة الدولية، مع ان طريق العدالة ما زال محفوفاً بالمطبّات السياسية رغم توفر الأدلة، ووحده (مجلس الأمن) التابع للأمم المتحدة يستطيع إحالة الأزمة السورية الى (محكمة الجنايات الدولية) من أجل الملاحقة القضائية، ولا بد من التذكير انه في عام 2014 عارضت كل من روسيا والصين محاولة منح تلك المحكمة صلاحية النظر في الجرائم التي ارتكبت من قبل أطراف النزاع.
لقد قدّم المراسل (بن توب) تقريرا مفصلاً الى مجلة (النيويوركر) موضحاً الكثير من المسائل المتعلقة بتشكيل “لجنة المساءلة والعدالة الدولية” والإجراءات الخاصة بعملية التحقيق، كما انه تتبع الآثار الناجمة عن الخطة التي وضعتها الدائرة المحيطة بالأسد على الناشط (مازن الحمادة) –نموذجاً-، والذي عانى الكثير من جراء الممارسات الاجرامية أثناء الاستجواب والاعتقال، وبالكاد تمكن من النجاة حيّاً.
يونادم
ملفات الأسد
عملية انقاذ الوثائق شديدة السرية التي تربط نظام الأسد بالتعذيب والقتل الجماعي
لقد قام ذلك المحقق بنفس الرحلة مئات المرات، ودائًما في نفس الشاحنة البالية التي لم تكن تحمل أي بضائع أبًدا. كانت الحدود على بعد أربعين ميًلا يعبر خلالها 11 حاجز تفتيش أمني في المناطق الخاضعة للثوار٬ حيث كان الجنود يعتبرون أنه أحد السكان المحليين، لقد جلب له سوء حظه كمحام في الحرب، كل هذا التنقًل على الطرقات التي تمر في تلك المنطقة، كان يجلب معه أحياناً الوجبات الخفيفة والمياه، وكان يحرص على ان يشكرهم لحماية المدنيين من أمثاله. أما في رحلته هذه التي يقوم بها بعد ظهر هذا اليوم الصيفي فقد حمّل شاحنته بأكثر من 100,000 وثيقة حكومية سورية تم الاستيلاء عليها كان قد جرى دفنها في حفر وإخفاؤها في كهوف وبيوت مهجورة.
انطلق مع الغروب، وبالنسبة للمقاتلين الذي يحرسون الحاجز كان بمثابة شخص مجهول لم يراه أحد. ها قد مرت أمامه حتى الآن ثلاث مركبات استطلاع وأكدت إحداها عبر الراديو ما كان المحقق يتلهف لسماعه: لا نقاط تفتيش بعد. كالعادة كانت الحدود مغلقة ولكن الجنود من الدولة المجاورة سمحوا له بالمرور. تابع الرحلة بشاحنته حتى وصل أخيراً الى موقع احدى السفارات الغربية حيث أوصل البضاعة بأمان إلى محامٍ أمريكي يدعى (كريس إنجلز) الذي كان يتوقع أن تتضمن الأوراق أدلة تربط مسؤولين سوريين كباًر بارتكاب جرائم جماعية. بعد قيامه، ولمدة تزيد عن عقد من الزمن، ، بتدريب عناصر سيمارسون في المستقبل مهمة (القضاء الجنائي) في دول البلقان وأفغانستان وكمبوديا، ها هو اليوم يقود وحدة تعقب جرائم النظام ضمن (لجنة العدالة والمساءلة الدولية – the Commission for International Justice and Accountability) وهي جهة تحقيق مستقلة أسُست في 2012 كرد على الحرب السورية.
قام العاملون في (لجنة العدالة) خلال السنوات الأربع الماضية بتهريب أكثر من 600,000 وثيقة حكومية خارج سورية ٬ والكثير منها تسرب من داخل منشآت استخباراتية شديدة السرية. كانت يتم جلب شحنة الأوراق إلى مقر المجموعة في إحدى الدول الغربية ٬ وأحياناً تحت غطاء دبلوماسي، حيث يتم هناك مسح كل ورقة ضوئياًّ وتحديد (بار كود) ورقم خاص بها وتخزينها تحت الأرض. ويوجد داخل غرفة الأدلة جهاز مزيل الرطوبة والذي يصدر طنيناً من أجل التنبيه، كما يوجد خارج الغرفة مباشرة صندوق صغير به سم فئران.
في أعلى الغرفة المجهزة بباب معدني والتي تغطي جدرانها خرائط لقرى سورية ولوائح تتضمّن الأدوار التي قام بها متهمون عديدون في الحكومة السورية ، وكانت أقوال الشهود والوثائق المترجمة تملأ عشرات الملفات الموضوعة داخل خزانة مضادة للحريق تبقى مغلقة أثناء الليل. يقوم (إنجلز) البالغ من العمر واحًدا وأربعين عاًماً، الأصلع الرياضي وصاحب السلوك المتحفظ، بالاشراف على العملية ٬ ويرفع المحللون والمترجمون تقاريرهم إليه مباشرة. لقد توج عمل لجنة العدالة مؤخًرا بمذكرة قانونية تبلغ 400 صفحة تربط التعذيب والقتل الممنهج لعشرات الآلاف من السوريين بسياسة موثقة ومدونة ووافق عليها الرئيس بشار الأسد، ويجري تنسيق العمليات والاجراءات بين الأجهزة الأمنيه والاستخباراتية ٬ ويطبقها عملاء النظام الذين يرفعون تقاريرهم عن مدى نجاح حملاتهم إلى رؤسائهم في دمشق. تسرد المذكرة الأحداث اليومية في سورية عبر عيون الأسد وشركائه وضحاياهم ٬ وتقدم سجًّلا للتعذيب المدعوم من الدولة يكاد لا يصدق في مداه وقسوته. لقد تكلم الناجون من السجون قبل ذلك عن القتل وأعمال التعذيب والاحتجاز غير الإنساني في سورية ٬ ولكن لم يتم حتى الآن تتبع ذلك إلى أوامر جرى التوقيع عليها بشكل رسمي على المستوى الرئاسي. (ستيفن راب- Stephen Rapp) الذي قاد فرق الادعاء في المحاكم الجنائية الدولية في رواندا وسيراليون قبل أن يخدم لست سنوات كسفير الولايات المتحدة لقضايا جرائم الحرب قال لي إن توثيق لجنة العدالة “أغنى بكثير من أي شيء رأيته وأي شيء قمت فيه كممثل للادعاء في هذا المجال”.
هذه القضية هي أول تحقيق دولي حول جرائم حرب تقوم به وكالة مستقلة مثل (لجنة العدالة والمساءلة الدولية) والتي تمولها عدة حكومات.
ان مؤسس لجنة العدالة (بيل ويلي – Bill Wiley) هو محقق كندي متخصص في جرائم الحرب وعمل مع عدة محاكم دولية بارزة وأصابه الإحباط بعد ان اصطدم بكثرة الصعوبات والعراقيل والخطوط الحمراء الجيوسياسية التي تقف في طريق السعي لتحقيق العدالة. ولكون عملية جمع الأدلة وترتيبها وتصنيفها الى مجموعة قضايا هي عملية تنفيذية صرفه، لذا فقد توصل إلى استنتاج منطقي يقول إنه من الممكن السير في القضية والقيام بها حتى قبل ان توجود الإرادة السياسية لتنفيذها حالياً.
مجلس الأمن في الأمم المتحدة هو وحده القادر على إحالة الأزمة في سورية إلى (المحكمة الجنائية الدولية): في مايو 2014 اعترضت كل من روسيا والصين على مشروع قرار كان سيعطي المحكمة الجنائية الدولية السلطة القضائية للنظر في جرائم الحرب التي ارتكبتها كل أطراف الصراع. مع ذلك قال لي (ويلي) إن اللجنة عليها أيضًا تحديد عدًدا من “الجناة الخطرين المتسربين من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية” الذين تمكنوا من الدخول إلى أوروبا، وأضاف ان “لجنة العدالة ملتزمة بشدة بمساعدة السلطات المحلية في الادعاء”.
لقد أصبح من المستحيل تقريباً حصر القتلى في سورية- توقفت الأمم المتحدة عن محاولة التعداد منذ أكثر من عامين- ولكن مجموعات حقوق الإنسان التي تراقب الأزمة قدرت أن العدد يصل إلى نصف مليون تقريبا، أي بمعدل قتل يتصاعد كل عام. لقد أفرغت الحرب البلاد من حوالي خمسة ملايين سوري استطاعوا الفرار إلى الدول المجاورة وأوروبا ٬ مما ينهك إمكانيات نفس تلك البلاد المستعدة لتوفير اللجوء والمساعدة الإنسانية. لعبت الفوضى أيضًا دوًرا أساسياًّ في صعود (داعش) وهي أكثر الجماعات الجهادية دموية والتي استخدمت سورية كقاعدة لتوسيع مدى الإرهاب.
في الخريف الماضي دعاني (ويلي) لفحص وضع لجنة العدالة داخل مقرها بشرط ألا أكشف عن موقع المكتب والحكومات التي تساعد في استخلاص الوثائق وأسماء العاملين مع استثناءات قليلة.
الانتفاضة
في ديسمبر 2010 قام بائع فاكهة في الريف التونسي ٬ كان قد ضجر من حياة مليئة بالتحرش والابتزاز من مسؤولي الحكومة المرتشين ٬ بإغراق نفسه بالجازولين ثم اولع عود ثقاب ليشعل الربيع العربي. وهبّ مئات الآلاف من المواطنين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ضد تشكيلة من الأنظمة الحاكمة للمتسلطين والملوك. طالب هؤلاء بإصلاحات ديمقراطية وفرص اقتصادية ووضع حدّ للفساد معبرين عن سخط بائع الفاكهة ويأسه. في نهاية يناير 2011 قال بشار الأسد ل (وول ستريت جورنال-(Wall Street Journal “ما ترونه في المنطقة هو نوع من الوباء”. أما لماذا بقيت سورية تتمتع بالاستقرار فقد أرجعه الأسد لمدى انتباهه الشخصي إلى أهمية “معتقدات الناس” مضيفاً ان “تلك قضية محورية، فعندما يكون هناك انفصال بين سياستك ومعتقدات الناس ومصالحهم ٬ سيتكون لديك ذلك الفراغ الذي يخلق الاضطراب”.
. كانت ثقة الأسد قوية بل ومطلقة في فاعلية أجهزة الأمن والاستخبارات السورية التي أبقته وعائلته في السلطة منذ 1971.
لقد وضع المتسلطون الآخرون في المنطقة ثقة مماثلة في قوات أمنهم، غير انه رغم ذلك سقطت الديكتاتورية في مصر ٬ كما صوت مجلس الأمن لإحالة الموقف في ليبيا، حيث تربع معمر القذافي على كرسي السلطة لمدة اثنين وأربعين عاًما ٬ إلى المحكمة الجنائية الدولية. وفي شهر آذار شنت قوات الناتو حملة لقصف ليبيا. في سورية بدأ الناس في مطالبة الحكومة بتقديم تنازلات، وكان مثل هذا النشاط يشوبه الخوف في البداية، اذ كان قد انقضى على البلاد ثمانية وأربعين عاًما وهي تعيش وتموت تحت قانون الطوارئ ولم تكن فكرة المظاهرات العامة مألوفة، لقد قوبلت الاحتجاجات بالقنابل المسيلة للدموع والرصاص ٬ ولكنها جذبت اليها سريعاً عشرات الآلاف من الأشخاص.
في 30 آذار2011 خاطب الأسد الأمة من الغرفة الدائرية في مبنى البرلمان السوري، بعد ان صرف وزارته وتوقع العديد من الناس أن يعلن عن إصلاحات ليبرالية، ولكن بدًلا من ذلك أعلن عن نيته في الانقضاض على المعارضة ٬ على طريقة ونهج والده حافظ الأسد قائلاً “ان سورية تواجه مؤامرة كبيرة تمتد أذرعها” إلى قوى خارجية تخطط لتدمير البلاد. وتابع: “لا توجد نظرية مؤامرة” ثم أضاف: “هناك مؤامرة”. وأنهى كلامه بتوجيهات منذرة “إن دفن التحريض على العصيان واجب وطني وأخلاقي وديني ٬ وكل من يستطيع المساهمة في دفنه ولا يفعل هو جزء منه” وأكد: “لا توجد تسوية أو طريق وسطي في ذلك”.
بعد يومين أخذت الاحتجاجات تمتد وتتوسع داخل البلاد. وكان الأسد قد شكل لهذا الغرض لجنة أمن سرية تسُمى الخلية المركزية لإدارة الأزمة ولتقوم بتنسيق الحملة القمعية ضد الشعب المحتج. كان رئيس تلك اللجنة (محمد سعيد بخيتان) أكبر مسؤول في حزب البعث الحاكم بعد الأسد ٬ وكان الأعضاء الآخرون جميًعا مقربين من قبيلة الأسد. وكان يتم تدوير مناصب هؤلاء المسؤولين بين المناصب الأكبر في القوات المسلحة والوزارات والأجهزة الأمنية والاستخباراتية.
كانت خلية الأزمة تلتقي كل ليلة في مكتب باهت في الدور الأول من القيادة الإقليمية لحزب البعث في وسط دمشق لمناقشةاستراتيجيات سحق التمرد. وكان ذلك يتطلب معلومات مفصلة عن كل احتجاج ٬ لذا كانت الخلية بحاجة الى تقارير من اللجان الأمنية والعملاء الاستخباراتيين في أكثر المقاطعات تمرًدا، فقررت المجموعة توظيف شخص يقوم بكل تلك الاعمال الكتابية.
كان أحد المتقدمين (عبد المجيد بركات) البالغ من العمر أربعة وعشرين عاًما ٬ وصاحب الشعر المصفوف بعناية للخلف. كان بركات قد أنهى لتوه درجة الماجستير في العلاقات الدولية وكان يعمل في وزارة التعليم. وعند اجراء مقابلته في أبريل فحص مسؤول كبير يدعى (صلاح الدين النعيمي) سيرته المهنية وسأله إن كان قادًرا على استخدام الكمبيوتر. ثم سأله النعيمي كيف سيحل الأزمة التي تفاقمت، فرد بركات إنه لتفادي رد فعل عسكري يجب على الحكومة أن تقدم بعض التنازلات وتقوم بإصلاحات حديثة.
فوجئ بركات أنه قد تم توظيفه. وكان قد جرى استجوابه في الكلية من قبل عملاء المخابرات الحربية لوجود شكوك أنه وزملاءه متورطون في أنشطة سياسية مضادة للحكومة. اذ كان قد انضم في وقت مبكر من الاضطرابات إلى واحدة من أوائل المنظمات الثورية. والآن وإثر عملية مستعجلة لتحويل خلية الأزمة نفسها الى جهة أكثر فاعلية، فقامت بتوظيف عضو في المعارضة لتسيير مذكرات أمنية سرية من جميع أنحاء البلاد. كانت تصل إلى مكتب بركات، في أغلب الأيام، أكثر من مائة وخمسين صفحة تتعلق بتصنيف دقيق للتهديدات المتصورة والمتوقعة لحكم الأسد —وتشمل تلك الصفحات جرافيتي (كتابات وصور على الجدران)، منشورات الفيسبوك، واحتجاجات، وأخيًرا تهديدات فعلية مثل وجود مجموعات مسلحة. قرأ بركات كل ذلك وكتب عنها ملخصات أوصلها النعيمي إلى أعضاء خلية الأزمة واستخدامها في توجيه كل اجتماع.
لم يسمح لبركات أبًدا بدخول غرفة الاجتماعات ٬ ولكنه رأى الأعضاء يدخلون إليها واحتفظ النعيمي بالمحاضر التفصيلية المدونة على أوراق تحمل شعار حزب البعث. وتضمن ضيوف المجموعة أحياناً مسؤولين بعثيين كباًرا ونائب الرئيس السوري وشقيق الرئيس الأسد الأصغر(ماهر) وهو قائد عسكري عصبي المزاج، كان الاتحاد الأوروبي قد وصفه ضمن قائمة العقوبات بأنه “المشرف الرئيسي على العنف ضد المتظاهرين”.
في نهاية كل اجتماع كانت خلية الأزمة تتفق على خطة لكل مسألة أمنية. ثم كان الرئيس بخيتان يوقع على محضر الاجتماع الذي سيحمله أحد المراسلين إلى الأسد في القصر الرئاسي. وعلم بركات أن الأسد يراجع الاقتراحات ويوقعها ويعيدها إلى خلية الأزمة من أجل التنفيذ. وكان الأسد يجري المراجعات بشطب توجيهات وإضافة أخرى. كما كان يصدر قرارات بدون مراجعة خلية الأزمة. لقد كان بركات واثقاً أن أي قرار أمني مهما كان صغيًرا ٬ لا يتم بدون موافقة الأسد.
وبعد بداية عمل بركات في خلية الأزمة بفترة قصيرة بدأ في عملية تسريب الوثائق. ومع أن النظام كان قد ادعى علناً أنه سيسمح بالمظاهرات السلمية ٬ إلا أن المذكرات الأمنية أوضحت أن عملاء المخابرات كانوا يستهدفون المحتجين ونشطاء الإعلام ويطلقون النار عليهم بلا تمييز. كان بركات يقوم بتصوير الوثائق في الحمام ثم يرسل الصور إلى صلاته في المعارضة السورية الذين نقلوها بدورهم إلى مؤسسات إعلامية عربية. كانت خطته أن يسرق أكبر قدر ممكن من المعلومات ثم يهرب. ولكن التسريبات زادت من الشكوك داخل المكتب وكان يعرف أنه عاجًلا أم آجًلا سيكتشف النظام أنه هو الواشي.
المحققون
يوم 19 أكتوبر 2005 وبينما كان (ويلي ) يجلس داخل حظيرة طائرة في قاعدة جوية في عَّمان بالأردن منتظًرا نقله إلى بغداد ٬ ظهر على التلفزيون صدام حسين في مناقشة حادة مع القاضي وهو يصرّ على أنه لا يزال رئيساً للعراق. كان ذلك في أول أيام محاكمة الديكتاتور السابق “لم أعر الأمر أي اهتمام مطلقاً” كما يتذكر (ويلي). كان التحالف الدولي قد أنشأ محكمة خاصة يعمل بها قضاة وممثلو ادعاء عراقيون للقيام بالإجراءات القانونية التي تتفق مع المعايير الدولية. ولكن الحكومة العراقية استبدلت القضاة الذين رأت أنهم يتعاطفون مع محامي الدفاع، وبعد أيام من ظهور محامي صدام حسين في نشرات الأخبار تم اغتيال اثنين منهم.
في بداية 2006 وظف التحالف (ويلي) لكي يقوم بتقديم استشارات للمحامين الذين كان دفاعهم الأساسي عن صدام يستند على أن المحكمة نفسها غير قانونية ٬ فقاموا بشكل دوري بمقاطعة الإجراءات، ثم غادروا العراق وتابعوا الجلسات على شاشة التلفزيون.
بالنسبة لويلي لم تكن هذه المحاكمة عن “صدام في حد ذاته” بل كانت “لإرسال إشارات الى مجتمع وقع ضحية للصراع على أنه اعتبارا من ذلك الوقت سيستند الحكم في هذه الدولة على أساس من القانون” ثم حث المحامين على العودة إلى العراق والدفاع عن موكلهم. في النهاية عاد محامو صدام حسين إلى المحكمة ٬ ولكن قبل نهاية الجلسات بوقت قصير تم اختطاف محامٍ ثالث ٬ وفي اليوم التالي وجدوه جثته مشوهة. ألقى الأعضاء المتبقون من الفريق باللوم على الحكومة العراقية ولم يظهروا لإلقاء المرافعة النهائية. صاغ (ويلي) كلمة محامي الدفاع عن صدام وقرأه محامٍ عراقي عينته المحكمة. واعترض صدام بالقول: “لقد كتب المرافعة النهائية كندي. أنا أعرف أنه جاسوس”. كان من الواضح أن المحكمة ستدين صدام٬ ولكن وجهة نظر (ويلي) كانت أن حياته يجب ألا تهدر. بدًلا من ذلك، وبعد سبعة أسابيع في قاعدة عسكرية تسمى (معسكر العدالة) تم شنق صدام حسين ٬ بينما كان الحراس الشيعة يستهزئون به. وبعدها تم إيصال جثمانه إلى منزل رئيس الوزراء من أجل عرضه ضمن احتفال
وبقي (ويلي) في بغداد عامين آخرين قام خلالهما بملء مذكرات الدفاع لأعضاء سابقين في نظام صدام. وقد قال لي أحد مسؤولي العدالة الأمريكيين إن مجهودات (ويلي) لجلب الإجراءات الواجبة إلى المحكمة “بطولية”. عندما غادر (ويلي) العراق عام 2008 قام بإنشاء مكتب خاص للاستشارات اسمه (تساموتا) ليساعد الحكومات الغربية ووكالات الأمم المتحدة في منع جرائم الحرب داخل الدول التي قد تتعرض للاضطرابات، وذلك من خلال تدريب الشرطة بالإضافة إلى أعضاء في القوات المسلحة والأمن والخدمات الاستخباراتية ليتمكنوا من التصرف بشكل مطابق للقانون الدولي.
في نوفمبر 2011 سافر (ويلي) إلى إسطنبول مع اثنين من زملائه في مكتب (تساموتا) لتدريب السوريين على جمع أدلة ستكون مفيدة للادعاء. وكان هناك مستشار أمني يعرفه قد قام باختيار بعض النشطاء السوريين الشباب والمحامين الذين تمت دعوتهم لترشيح أصدقاء موثوق بهم، وقد انبهر (ويلي) بشجاعتهم ٬ وان كان يعتقد أن أساليبهم غير فعالة، اذ “كانوا يميلون في تلك الأيام إلى التجوال حاملين كاميرات فوتوغرافية وكاميرات فيديو وهواتف ذكية ليصوروا هجمات النظام على المناطق الحضرية ثم يضعون مادتهم على اليوتيوب” وقد ذكر لي “ان أول شيء فعلناه هو أننا شرحنا لهم أن هذا يكاد يكون بلا قيمة كدليل جنائي” بدون إثباتات “إنكم تخوضون مخاطرات كبيرة – وبالفعل كان العديد من الشباب يقتلون أو يصابون وهم ينتجون فيديوهات أو صوًرا- بلاجدوى”. على سبيل المثال فإن تصوير قصف جوي لمستشفى على سبيل المثال لا يوفر أي دليل على أن الهجمة كانت مخططة من قبل المسؤولين الكبار الذين هم موضع اهتمام نظام العدالة الدولي. يقول (ويلي): “يحتاج الشخص أن يثبت ان عليهم مسؤولية جنائية فردية”.
بحلول ذلك الوقت كانت الآلاف من القوات الحكومية قد هربت من الخدمة وانضمت إلى الكتائب الرثة المكونة من الفلاحين المحليين والعمال البسطاء. بعض المقاتلين صنعوا مفجراتهم بأنفسهم وأطلقوا قذائف من مقاليع عملاقة. قصفت القوات السورية المساحات الضئيلة التي كان هؤلاء المتمردون يسيطرون عليها. كان العديد من النشطاء الذين يحضرون جلسات التدريب في إسطنبول يعيشون في مناطق محاصرة. علمهم (ويلي) كيف يلتقطون الصور وكيفية تقدير مقياس فوهات المدافع ومقدار زوايا الصدمات٬ واستعمال الشظايا لتحديد نوع السلاح المستخدم وحساب نقطة الانطلاق. ولكنه قال : “الشيء الأكبر الذي أردنا أن يركزوا عليه هو توثيق البيانات والوثائق الصادرة عن الحكومة” والذي وصفه انه بمثابة “ملك أو ملكة الأدلة في الإجراءات الجنائية الدولية”.
بعد جلسات التدريب القليلة الأولى دعا (ويلي) (ستيفن راب) الذي كان في ذلك الوقت السفير الأمريكي لشؤون جرائم الحرب للتحدث مع السوريين الذين كان عددهم قد وصل إلى بضعة عشرات. كان الرجلان قد التقيا قبل عقد من الزمن بينما كانايعملان في محكمة رواندا ٬ ناقش (ويلي) (وراب) وهما يحتسيان المشروبات في إسطنبول إمكانيات إنشاء مركز توضع به الوثائق التي يتم الاستحواذ عليها والتي يمكن أن تستخدم في يوم من الأيام في تلك المحاكمات. كانت الأمم المتحدة قد أطلقت لجنة للمساءلة والتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في سورية ٬ ولكن سلطتها لم تمتد إلى الادعاء وبدًلا من التعامل مع الوثائق فإن الأمم المتحدة اعتمدت في الأغلب على مقابلات مع شهود أجريت في معسكرات اللاجئين وعبر السكايب. قال لي (راب) “أغلب الأدلة التي جمعوها لن تكون متاحة للادعاء” ٬ لأن الأمم المتحدة عاهدت الشهود على السرية التي ليست لها مدة محددة، وان المحاكمات ستكون علنية.
عندما عاد النشطاء والمحامون — بعد ان تحولوا الى محققين — إلى سورية، صاغ (ويلي) خطة لإنشاء لجنة العدالة والمساءلة الدولية، فوضع لها ميزانية. ومع أن بريطانيا استمرت في دعمها إلا أنه قد ثبت أنه من الصعب العثور على متبرعين آخرين. تخصص الحكومات الغربية مئات الملايين من الدولارات سنوياًّ لمشاريع حقوق الإنسان ٬ ولكن ويلي قال لي إن ردهم المعتاد كان ” مشروعك هو شيء تفعله الحكومات أو تفعله الأمم المتحدة وتفعله المحكمة الجنائية الدولية”. في النهاية استطاعت لجنة العدالة والمساءلة الدولية بمساندة من (راب) أن تؤمن ثلاثة ملايين يورو من الاتحاد الأوروبي. لاحقاً تعهدت ألمانيا وسويسرا والنرويج والدنمارك وكندا بالإستمرار في التمويل .
الإمساك بالوثائق
كانت الحرب تجري بشكل سيئ بالنسبة للأسد، فقد ارتفع في عام 2012 عدد الهاربين من القوات المسلحة ومن الوزارات المدنية بشكل كبير، وانضم الهاربون إلى الجيش السوري الحر وهي منظمة فضفاضة من المجموعات المتمردة عبر البلاد والذين يتطلعون الى التحول الديمقراطي في سورية ٬ ثم بدأ الجهاديون المتطرفون بالظهور على أرض المعركة أيضًا ٬ وأثبتوا بشكل عام أنهم أكثر قدرة على القتال، واستولى عدد من المتمردين على ممرات رئيسية تفضي إلى داخل تركيا ودفعوا القوات الحكومية خارج مناطق كبيرة من شمال سورية بما في ذلك أجزاء من إدلب وحلب ٬ أكبر المدن السورية.
بحلول فبراير من نفس العام كان رئيس (الخلية المركزية) السورية لإدارة الأزمة قد استجوب بركات بالفعل حول التسريبات.
قال موظف آخر في خلية الأزمة لبركات إن سكرتيرته تتجسس عليه. قرر بركات الهرب من البلاد ولكن ليس قبل تأمين
الحصول على محاضر الاجتماعات التي كان يحتفظ بها بشكل آمن في مكاتب الأعضاء. كما خطط أيضًا لسرقة المراسلات بين (خلية الأزمة) ومكتب الرئيس ورئيس الوزراء ووزير الداخلية. وخلال أحد أيام العطلة قام بركات بنهب المكاتب وأخذ أكبر عدد استطاع الحصول عليه من الوثائق قبل الانتقال مسافة تقدر بمائتين وخمسين ميًلا شمال دمشق إلى الحدود التركية.
كانت القوات السورية تسيطر على نقطة المرور ٬ ولكن بركات استطاع التسلل عبر النقطة بأكثر من ألف صفحة ملصقة
بجسمه وحجز غرفة في فندق باسم مستعار قبل أن يلاحظ أي شخص في دمشق أنه قد رحل. في الشهر التالي وبعد مغادرة
والدته سورية قال لمحطة تلفزيون الجزيرة أنه أرد أن تصل الوثائق إلى المحكمة الجنائية الدولية.
بعد هروب بركات بوقت قصير نقلت (خلية الأزمة) اجتماعاتها من قيادة حزب البعث الإقليمية إلى مقر مكتب الأمن الوطني
شديد الحراسة. في يوليو ووسط شائعات عن ترقب انقلاب ٬ دوى انفجار داخل غرفة الاجتماعات متسبباً في مقتل رئيس خلية
الأزمة، ورئيس مكتب الأمن الوطني، ووزير الدفاع، وزوج شقيقة الأسد (آصف شوكت) الذي كان قد تولى مؤخًرا منصب نائب وزير الدفاع. (تبنت مجموعتان متمردتان على الأقل مسؤولية الهجوم ولكنهم طرحوا سرًدا للحادث يختلف كثيراً عن الوقائع)
في اليوم التالي حملت صحيفة (التايمز) عنواناً رئيسياًّ يقول: “واشنطن تبدأ التخطيط لسقوط الحكومة السورية”. ثم قام رئيس وزراء الأسد بالهرب والانتقال إلى المعارضة، كما فعل نفس الشيء المتحدث الرئيسي باسم وزارة الخارجية، حتى ان الجنرال المسؤول عن منع حالات الهروب اتهم القوات المسلحة “بالقيام بمذابح ضد شعبنا المدني البريء” وأعلن “انضمامي
إلى ثورة الشعب”.
أقام المحققون السوريون في لجنة العدالة تحالفات مع كتائب محورية في الجيش السوري الحر الذي كان يكتسب فيه أراض جديدة. لم يكن لدى الثوار في البداية “اهتمام بالتوثيق” كما شرح ويلي. “كانوا يدخلون ويستولون على منشأة تابعة للنظام، فتخرج الهواتف الذكية، ويحدث الكثير من الفرح والصياح وإطلاق الأعيرة النارية في الهواء، ثم يقومون بنهب المكان باحثين عن أسلحة وذخيرة التي كانت ما يحتاجون اليه، ثم يضرمون النيران في المكان”، ويتم بذلك تدمير كل الأدلة المحتملة.
يقول ويلي إن لجنة العدالة قالت للثوار: “استولوا على الوثائق أوًلا ٬ ثم نحوها جانباً حتى يمكن إخراجها من البلاد. واحتفظوا
بملاحظات — ملاحظات بسيطة جًّدا — مثلاً، من أين تم الحصول على الوثائق وفي أي تاريخ. احفظوها في صناديق. اقفلوا
الصناديق بأفضل طريقة ممكنة، بمغلف بلاستك أو شيء شبيه — بأي شيء متاح. ثم مع انتقال المواد ٬ احتفظوا بجدول يفصل حركة النقل، ولكن لا تعبثوا بتلك المواد أو تقلبوها” لأنه في المحكمة بإمكان محامي الدفاع أن يقول “إنكم تجاهلتم أدلة تثبت البراءة عن عمد”.
كثيًرا ما كان المحققون السوريون يصحبون الثوار المعتدلون اثناء مهاجمتهم مباني الاستخبارات والأمن ولكن القوات الحكومية كانت تحاول تدمير كل الملفات التي لم يتمكنوا من أخذها معهم. ففي الأيام التالية التي تعقب الانسحاب “يكون هناك قصف بلا هوادة” لمواقع محورية كما ذكر لي المحقق الرئيسي في لجنة العدالة، ينجم عنه انفجارات في مواسير المياه تدمّر مئات الآلاف من الصفحات قبل أن يتمكن هو وزملاؤه من الدخول. أحياناً تتصل بهم مجموعات مسلحة بغرض أن يأتوا ويجمعوا الملفات بعد انتهاء تبادل إطلاق النار.
قال لي ويلي: “ان تتبع الأشخاص المسؤولين عن حيازة الوثائق هو أمر مهم ٬ ولكنه لا يحسم الأمور كليا.. لقد قتل وأصيب عدد من الأشخاص خلال نقل تلك الأشياء”. وأول الضحايا كان مراسل يتولى مهمة تهريب الوثائق، اذ أصيب بإطلاق النار عليه في 2012 حين دخل مصادفة على خط لتهريب البضائع الى خارج سورية وهو يحمل حقيبة ملابس ممتلئة بالوثائق. منذ ذلك الوقت أصيب اثنان آخران خلال عملية استخراج الوثائق، أحدهما — شقيق نائب رئيس محققي اللجنة — قتل في فخ نصبته القوات السورية. في 2012 أيضًا وصل أحد المراسلين وزوجته إلى نقطة تفتيش غير متوقعة خارج حلب، كان يشرف عليها مقاتلون ينتمون لجبهة النصرة وهي مجموعة جهادية تبين لاحقاً أنها الفرع السوري لتنظيم القاعدة، لقد اكتشف المقاتلون وثائق المراسل في مؤخرة السيارة، وتركوا زوجته تذهب بعد ان قاموا باحتجازه. قال لي ويلي: “هددوا بمحاكمته واعدامه كجاسوس للنظام، غير انه تمكن من التوصل إلى عقد صفقة، حيث تمت إدانته بشيء ما في المحكمة الشرعية وكانت الغرامة خمسة آلاف دولار، وقام بدفع الغرامة”.
اختطفت الجماعات الجهادية خمسة أو ستة محققين، لكنهم أطُلقوا سراحهم جميًعا. ويشكل الإسلاميون الراديكاليون خطًرا على المحققين مساوياً لخطر النظام. وتنظر تلك المجموعات بارتياب كبير الى موضوع العلاقة مع الغرب، وكذلك الى مفهوم العدالة الدولية الذي ليس مألوفاً بالنسبة لهم، وفي أغلب الأحيان جعل المحققون مهمتهم معروفة للمتمردين والجهاديين في سعيهم للحصول على الوثائق. قال لي ويلي “أفرادنا مدربون جيًدا على كيفية تصرفهم في حال الإمساك بهم… الأدوات التي بحوزتهم مشفرة ومعقدة بشكل كافٍ لدرجة أن أي شخص يقدم على فحصها لن يجد بها أي أدلة عن النشاط الذي يقومون به”. محقق واحد فقط ٬ تم إلقاء القبض عليه قبل عامين ٬ ويحتجزه النظام السوري حالياًّ.
ان نقل الوثائق إلى الحدود الدولية هو أخطر الخطوات على الإطلاق في عمل لجنة العدالة، فالأوراق ثقيلة وتدين المراسل ولكن الصور ٬ مع أنها أكثر قابلية للحمل إلا أنه يصعب التأكد من صحتها في المحكمة. يصل معدل الحزمة الواحدة من حزم الوثائق الى ما يعادل 25 كغ ” وتتكون من تشكيلة مربكة من حقائب السفر الرديئة” التي يتم تهريبها عبر الحدود. قال لي ويلي إن الحمولة الضخمة تتطلب تخطيطًا أكثر دقة “فكر في صناديق الأوراق التي تقبع بجوار ماكينة التصوير” ثم تابع شرحه: “في ذلك الصندوق خمس رزم من الأوراق تتضمّن كل واحدة منها خمسمائة ورقة فقط” ويصل وزنها الإجمالي الى حالي 10 كغ “وذلك لما مجموعه ألفان وخمسمائة ورقة فقط،، ولقد استخرجنا من سورية ما يقارب ستمائة ألف ورقة”، أي عدة أطنان، “لهذا سنحتاج إلى سيارات. وتلك السيارات يجب أن تعبر نقاط التفتيش، وذلك يتطلب القيام بإجراء استطلاع، أي يجب ان تعرف نوعية نقاط التي ستصادفك” تقوم اللجنة بدفع مبالغ مالية لمجموعات الثوار والمراسلين من أجل تغطية الدعم اللوجيستي، يقول ” نحن نحرق مبالغ باهظة في سبيل نقل تلك الأشياء”. كما ان إخراج كميات كبيرة يعتمد عادة على أن تفاوض الدول الصديقة من أجل فتح الحدود التي تكون مغلقة، لذلك قد تبقى الوثائق مخبأة لمدة أشهر. في إحدى الحالات تركت عدة آلاف من الصفحات من الأدلة مع سيدة عجوز في بيت ريفي معزول في جنوب سورية ولكن المحققين لم يشرحوا أهمية تلك الملفات، وتابع (ويلي)، إنه عندما أتى الشتاء “وكانت تشعر حقاً بشدة البرد، فأحرقت كل المجموعة لاستخدامها
كوقود”. ذكر لي المحقق الرئيسي في اللجنة وهو سوري إنه في المناطق المعادية بشكل استثنائي يقوم هو ورفاقه بإخفاء الوثائق داخل كهوف أو يدفنونها في الأرض ٬ ثم يسجلون مكان الموقع على أمل استعادتها بعد أشهر أو سنوات من ذلك التاريخ، حين يتوقف القتل. يقول ويلي٬ “لا يزال لدينا في سورية كميات كبيرة من المواد لن نقوم بنقلها” لأن ذلك خطير جًّدا “ربما تصل الى نصف مليون صفحة”.
وبينما يجمع السوريون وثائق يقوم (ويلي) بتوظيف محللين عسكريين وسياسيين ومحققين ومترجمين ومحامين في أوروبا. بحلول 2015 تضخمت ميزانية لجنة العدالة ووصلت إلى ثمانية ملايين دولار سنوياًّ وبلغ عدد العاملين فيها حوالي مائة وخمسين بما في ذلك الموظفون في المقر الرئيسي وكذلك في مكتب تحليل أفلام الفيديو في مكان ما من أوروبا بالإضافة إلى المحققين في الشرق الأوسط. توظف اللجنة عدًدا من المحققين يساوي عدد من يعملون على كل قضايا المحكمة الجنائية الدولية مجتمعين.
يرد العديد من الوثائق من داخل منشآت أمن استخباراتية بعيدة عن العاصمة. وتشير تلك الوثائق عادة إلى قرارات اتخذتها (الخلية المركزية) السورية لإدارة الأزمة ٬ ولكنها لم تكن بنفس أهمية الملاحظات التي أتت من داخل تلك الاجتماعات. كما كان لا بد للجنة من الحصول على ملاحظات تتعلق باجتماعات (الخلية المركزية) ٬ ولكن بركات الذي يعيش في إسطنبول اليوم قال لي إنه في 2014 زاره (كريس إنجلز) مع محلل لفحص الوثائق التي حصل عليها من (خلية الأزمة) وقال: “مرت ثلاثة أيام وهما يواصلان أسئلتهما التفصيلية الدقيقة عن العمل الذي قمت به ٬ تفاصيل عن سير الاجتماعات”. كما قاما بتصوير الأوراق المهربة، وقد وعدهما بركات بتقديم النسخ الأصلية حين تصل القضية للمحكمة.
بينما كنت أتحدث مع بركات عبر الفيديو ٬ رفع كومة من الملفات التي تحفظ عادة داخل منشأة منيعة، قال: “هذه هي محاضر
اجتماعات الخلية المركزية السورية لإدارة الأزمة” ٬ ثم قام بسحب صفحة وأشار إلى شعار محفور في الأعلى. “كما ترى ها هو الصقر الذهبي الصغير؟ تلك هي الوثائق الأصلية ٬ وهي موقعة بالأخضر”. بدأت لجنة العدالة بفحص ملفات بركات
لتقيم الصلة وتربط بين قرارات (خلية الأزمة) والنشاطات الإجرامية لعملاء الأمن في المقاطعات النائية. واصبحت مهمة تعقب العملاء الذين عملوا في خدمة النظام ممن هم على استعداد لشرح أدوارهم أكثر سهولة بسبب أن الكثيرين منهم هربوا من السلطة. وجد محللون يعملون مع لجنة العدالة ان هناك هاربين أثرياء في دول الخليج وتركيا وأوروبا. كما حصلوا على افادات من شهود عيان في جنوب تركيا في معسكر (أبايدين) للاجئين وهو معسكر تحت حراسة مشددة يسكنه حصرياًّ مسؤولو النظام السابق وعائلاتهم. (لم يتم إدراج أي منهم كمشتبه في القضية لأنها تركز على المسؤولين في مناصب أعلى).
قال ويلي عن الشهود: “إذا كان لي أن أستخدم ببرود تشبيهاً لهم — فإنهم (العشرة بقرش)”. فضلت لجنة العدالة أن تقابل الضحايا الذين بقوا في سوريا ولم يتحدثوا أبًدا مع صحفيين أو مجموعات حقوق إنسان أو لجنة التحقيق الدولية المستقلة (قد يقترح محامي الدفاع أنه داخل مخيمات اللاجئين المكتظة قد تتقارب الشهادات بشكل غير عادل). لذا فقد أجرى المحققون السوريون مقابلات مع ما يقرب من مائتين وخمسين ضحية ومن مناطق متعددة وذلك لتوفير “أدلة لها طابع نمطي” تظهر أنه قد تم ارتكاب الجرائم بشكل منهجي ويتسق مع الأدلة الواردة في الوثائق. كان الهدف هو إيجاد صلات قوية بين سياسات السلطات السورية وتأثيرها على الأفراد عبر وثائق النظام وشهادات الشهود والضحايا.
الناشط
بعد ظهيرة أحد أيام الشتاء وفي غرفة فندق على مقربة من (أمستردام)٬ التقيت ناشطًا سورياًّ هزيًلا يبلغ من العمر ثمانية وثلاثين عاًما ويدعى (مازن الحمادة)، – وهو ليس شاهداً لدى (لجنة العدالة) فالشهود تبقى هويتهم سرية حتى يتم استدعاؤهم للإدلاء بشهادتهم – وتقدم قصة (الحمادة) فرصة لتعقب الأثار التي تتركها سياسات النظام السوري على المواطنين الذين كانت السلطة على استعداد لفعل كل ما يلزم من أجل إسكاتهم.
ولد (الحمادة) عام 1977 وهو الأصغر بين سبعة عشر طفًلا في عائلة متعلمة من الطبقة الوسطى في مدينة دير الزور الشرقية. أصبح إخوته صيادلة ومدرسين ومحامين ٬ بينما أصبح هو أخصائي ميداني في شركة (شلمبرجيه) ٬ وهي شركة دولية في قطاع خدمات البترول ولديها قاعدة عمليات في حقول البترول الغنية حول دير الزور. كان أعضاء عائلة (الحمادة) ينتقدون النظام وكان يتم تعقبهم واعتقالهم بشكل دوري حتى قبل الثورة. كانوا غاضبين بشكل خاص بسبب فشل الحكومة في فعل أي شيء بخصوص الفجوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء. قال لي (الحمادة) “كان كل شيء مرتباً لصالح الصفوة”. في 2011 قام رئيس مكتب الأمن الوطني بكتابة مذكرة سرية لرئيس خلية الأزمة يحاول فيها ارجاع ضعف الشعور الوطني في (دير الزور إلى :”النظام القضائي الفاسد وتأخر الفصل في القضايا، و تفشي المحسوبية واللجوء إلى الرشوة لاستعادة الحقوق”.
كانت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في المنطقة موالية للأسد فمع أول مؤشرات الاضطراب في فبراير 2011 أرسل قائد فرع دير الزور في المخابرات العسكرية اللواء (جامع جامع) تعليمات لجميع من هم تحت إدارته لكي “يحضروا الكاميرات…لتصوير المشاركين والمحرضين من أجل تحديد هوياتهم وتحميلهم المسؤولية في المستقبل” (لاحقاً استعاد محققو لجنة العدالة
الوثيقة الخاصة بهذا الأمر، بالإضافة الى وثائق أخرى متعلقة بأوامر لها صلة بحملة القمع، من مقر المخابرات الحربية في دير الزور بعد أن تم هجره).
يوم 4 فبراير وقع رئيس مكتب الأمن الوطني في دمشق على أوامر “بالتحقيق، والبحث، ثم القبض” على كل من كتب “يسقط بشار” على أنبوب للمياه قطره 25 سنتمتر ويقع على امتداد جزء بعيد من الطريق السريع بالقرب من دير الزور. أمضى رئيس مكتب الأمن السياسي للمنطقة شهًرا كاملاً في التحقيق حول الواقعة ثم أجاب “لم يوجد لدينا أي معلومات عن الفاعلين”. وفي يوم 18 مارس جرت مباراة لكرة القدم في دير الزور بين فريق (الفتوة) المحلي ٬ وفريق (تشرين) من اللاذقية الذي يفضله الأسد. كان (حمادة) يعيش بالقرب من الاستاد وكان يستطيع سماع صوت الجمهور “وبدأت جماعات من الناس من بين الجماهير يهتفون من أجل الإصلاح وضد النظام” ويتذكر (حماده) أن فريق (الأسد) هو الفائز. وأغضبت هذه النتيجة الجمهور ولكن (حمادة) كان يضحك، اذ تصور أن نتيجة المباراة كانت محددة سلفاً. يقول: “ما أن أطلق الحكم صفارة إيقاف المباراة خرج الجميع إلى الشارع” وكان ذلك أول احتجاج له وزن في دير الزور. فقد تم إلغاء جميع مباريات كرة القدم لبقية الموسم. طوال معظم شهر مارس استمر مسؤولو الأمن الاستخباراتي في دير الزور بوصف الاضطرابات بكلمات مباشرة. ففي تلغراف إلى مرؤوسيه داخل المحافظة شرح اللواء جامع أن الاحتجاجات في سورية هي بتأثير من “بعض البلدان العربية التي انفجرت فيها ثورات شبابية تطالب بالتغيير وإرساء الديموقراطية والحريات وإجراء إصلاحات لتوفير فرص العمل للشباب وتحسين مستوى المعيشة ومكافحة الفساد”. ولكن بنهاية الشهر تبنى رؤساء الأجهزة الأمنية في دير الزور لغة المؤامرة التي كانت تصدر من دمشق، وبعد ساعات من إلقاء الأسد لخطابه التلفزيوني في مبنى البرلمان يوم 30 مارس وافق أعضاء لجنة الأمن بدير الزورعلى اعتبار الخطاب “مرجًعا وأساًسا لعملنا” وكانت أغلب مناقشاتها التالية يتخللها قلق من الخيانة والتحريض والاختراق الأجنبي و”المشروع الصهيوني الأمريكي”.
كان (حمادة) وأصدقاؤه متحمسين لإمكانية الثورة، وبدأوا كل يوم أربعاء في الاجتماع داخل مسجد الحي ٬ مسجد عثمان بن عفان ٬ لتنظيم احتجاجات تعقب صلاة الجمعة. قال لي “أنها مسالة لوجيستية. الجميع يذهبون إلى المسجد يوم الجمعة والجميع يخرجون منه” وأضاف “إن كنا نستطيع الخروج من الكنائس لكنا خرجنا من الكنائس”.
حسبما ورد في محضر اجتماع تم الاستيلاء عليه من لجنة الأمن بدير الزور إن أعضاءها قرروا أن يخترقوا السجون بموالين لحزب البعث “قمنا بتوزيع الرفاق على المساجد بمعدل من مائتي رفيق في المسجد الواحد والتعامل مع أية حالة تثير الفتنة”. قسمت اللجنة كل مجموعة إلى ثلاث فرق: واحدة داخله وواحدة للاستطلاع خارجه والثالثة مستعدة احتياطياًّ. ولكن في
الأسبوع التالي أبلغ محافظ دير الزور لجنة الأمن أن “معظم من تم توقيفهم لدى الأجهزة الأمنية هم رفاق بعثيون” ممن هجروا الحزب للانضمام للمحتجين.
كثيًرا ما كان (حمادة) يصور المحتجين وردود فعل أجهزة الأمن. كان النظام قد قام بقطع الإنترنت في حيه ٬ لذا فقد قام بتحميل الفيديوهات على يوتيوب في محل عمل أحد أقربائه ٬ بعضها وصل إلى إذاعات إخبارية عربية، ولمناهضة مثل هذه الأنشطة ٬ قال محافظ دير الزور للجنة الأمن: “يجب ترشيح عدد من الرفاق الخبراء في مجال الإنترنت للتعامل مع المواقع المعادية التي تبث سمومها داخل القطر مثل فيسبوك”. وبينما كانت لجنة الأمن تناقش أهمية إبداء البعض لضبط النفس ٬ كان العنف يتصاعد. قال (جامع) إن المحتجين تراودهم فكرة “إراقة الدماء تمهيًدا لطلب قوات أجنبية”. وهي نتيجة قال إنه يريد تفاديها بأي ثمن. في وقت مبكر من اليوم التالي أرسل برقية من سطر واحد لجميع أفرع الأمن الاستخباراتي في المقاطعة: “نطلب منكم إصدار تعليمات لعملائكم بالامتناع عن فتح النار عشوائياًّ وقتل الناس”.
في شهر أيار تدهور الأمن سريًعا في محافظة (دير الزور)، فقام رجال مسلحون بالعصي والبنادق والقنابل الحارقة بحرق قسمي شرطة وأربع سيارات شرطة وست دراجات بخارية خاصة بالشرطة. علم عملاء المخابرات أن شخصًا قد حاول تجنيد متطوعين لإبطال مفعول سيارة مفخخة خارج منزل جامع. حذر رئيس فرع الأمن السياسي في دير الزور “ستكون هناك موجة من الاغتيالات”.
استمر (حمادة) الذي كان قد تم احتجازه مرتين سابقاً٬ في تنظيم الاحتجاجات ٬ ولكنه صار يقضي الليل في بيوت آمنة مع غيره من الناشطين الآخرين،. وكان قد تم القاء القبض على أحد أشقائه ولم يطلق سراحه. في اجتماع مع لجنة الأمن حذر جامع من أن الاعتقالات قد تكون “سلاًحا ذا حدين” ٬ إذ إنها ستزيد من عدد الأشخاص الغاضبين المطالبين بإطلاق سراح أفراد من عائلاتهم. في نهاية أيار أرسل جامع عدة برقيات معبًرا عن غضبه من أن المحققين يصعقون المعتقلين بالكهرباء ويطفئون السجائر في أجسادهم ويقومون بضربهم “الضرب المبرح والمؤذي على كافة أنحاء الجسد بشكل مثير للاشمئزاز” والاعتداء عليهم جنسياًّ بإجبارهم على الجلوس على زجاجات المشروبات الغازية. قال إن سجنه سيقرر “عدم استلام أي موقوف تعرض للضرب في سجن رئاسة الفرع إلا بتقرير خطي عن وضعه الصحي والقائمين بضربه”.
غير أن تردد جامع تلاشى في صيف 2011. وحسبما قال شهود عيان ٬ يصف محتجزون في فرع المخابرات الحربية الخاص به ٬ انه كان يجري ضربهم بالقبضات والعصي حتى يفقدوا الوعي وتكسر عظامهم وتسقط أسنانهم وكانوا يحشرون في إطارات سيارات ويضربون حتى تدمى أقدامهم ويتعرضون لصدمات كهربائية بعد إلقاء المياه عليهم ويتم انتهاك أعضائهم الجنسية حتى يتبولوا الدماء ٬ وكانوا يجبرون على مشاهدة مساجين آخرين يضربون حتى الموت. قال العديدون إن جامع كان يشارك بنفسه في التحقيق.
الأوامر
في مساء يوم 5 أغسطس 2011 عقدت )الخلية المركزية( لإدارة الأزمة اجتماعها المعتاد في المقر الإقليمي لحزب
البعث في مدينة دمشق. وكانت الاضطرابات قد امتدت الى عدة مقاطعات أخرى بعد خمسة أشهر من اندلاع الثورة. وأرجع أعضاء لجنة الأمن هذا الأمر إلى “التداعيات في معالجة الأزمة” حسبما ورد في الوثائق التي استولت عليها (لجنة العدالة). وألقوا اللوم على ضعف التنسيق والتعاون بين الأجهزة الأمنية”. في ذلك المساء قاموا بوضع خطة لاستهداف فئات محددة من الناس.
أوًلا : كان على جميع الفروع الأمنية أن تشن حملات يومية ضد منظمي الاحتجاجات الذين يتحدثون إلى الصحافة الدولية.
ثانياً : “بعد تنظيف كل قطاع من المطلوبين” سيقوم عملاء الأمن بالتنسيق مع الموالين للبعث ومليشيات الأحياء وقادة المجتمع ٬ لضمان ألا يستطيع نشطاء المعارضة العودة إلى تلك المناطق.
ثالثا: ً سيتم “تشكيل لجنة تحقيق مشتركة في المحافظة” مكونة من ممثلين عن كل الفروع الأمنية لاستجواب المعتقلين. المحصلة: “تعميم نتائج التحقيق على كافة الفروع الأمنية لاستثمارها في تحديد العناصر المستهدفة الجديدة من أجل ملاحقتهم”. كان الهدف الأساسي هو “التوصل إلى أسماء التنسيقيات المحلية” من منظمي الاحتجاجات وتوقيفهم. كما تم إعطاء أوامر لعملاء الأمن ب “موافاة رئيس مكتب الأمن القومي يومياًّ بتقرير عن نتائج التفتيش يتضمن أسماء المطلوبين الذين تم توقيفهم”. بعد ذلك بوقت قليل سافر أعضاء (خلية الأزمة) إلى المقاطعات التي تشكل مشكلة بما فيها دير الزور للإشراف على تشكيل لجان تحقيق مشتركة.
أصبحت هذه السياسة مرتكزاً اساسياً في القضية التي تسعى لجنة العدالة لانجازها ضد المسؤولين في النظام السوري. قال ويلي عن أعضاء خلية الأزمة “أسماؤهم في كل مكان في هذه الوثائق”. واستطاع المحللون في أوروبا أن يتتبعوا من خلال وثائق (بركات) من دمشق والوثائق الستمائة ألف الخاصة ب (لجنة العدالة) كيف يجري توزيع وتسلسل تلك الأوامر انطلاقاً من (خلية الأزمة ) ونزولاً في تسلسل يصل الى القيادات الدنيا.
أرسل (هشام بختيار) رئيس مكتب الأمن القومي تعليمات إلى السكرتاريات الإقليمية لحزب البعث والتي يرأس كل واحد منها اللجنة الأمنية في المنطقة بأوامر إضافية تتطلب “التقيد بالتعليمات للتعجيل في إنهاء الأزمة”.
قام رؤساء أجهزة الأمن الأربعة – المخابرات العسكرية ومخابرات القوات الجوية والأمن السياسي وإدارة المخابرات العامة – بارسال التوجيهات إلى رؤساء المناطق في المحافظة ورؤساء الفروع الإقليمية الذين حولوها بدورهم إلى عملاء الأمن المحليين.
لقد سافر أعضاء (خلية الأزمة) الى المناطق المضطربة ليشرفوا على تشكيل لجان التحقيق المشتركة. أما بالنسبة ل (لجنة العدالة والمساءلة الدولية) فقد ذكر لي (كريس إنجلز) : “إاذا كان يتم ارسال تلك الأوامر ثم لا يجري تطبيقها فان ذلك لا يقول لنا الكثير… لذا فقد كانت هناك أهمية مساوية لأن نرى التقارير التي ترد إلى أعلى سلم القيادة ” والتي تؤكد من أن تلك الفئات من الناس قد تم استهدافها بالاعتقال والتحقيق وأن القيادة في دمشق هي على علم بالانتهاكات داخل مراكز الاعتقال. قال ويلي: “سيتم محاكمة كل من فشل بشكل متواصل في السيطرة على مرؤوسيه الذين يتصرفون بشكل إجرامي… إن نظام القيادة ومسؤولية المراتب العليا متقدم جًّدا”. كان بعض أعضاء لجان الأمن الإقليمية متحمسين لإبلاغ رؤسائهم حتى انهم اتخذوا خطوات استباقية من أجل إرضاء رؤسائهم. لقد وجدت نسخة من التعليمات الخاصة ب (خلية الأزمة) داخل الرقة وقد كتب عليها بخط اليد “فعلنا ذلك منذ زمن بعيد”.
في ظل القانون الدولي جميع الحكومات في العالم ملزمة بأن تجري تحقيقاً عن انتهاكات حقوق الإنسان التي تشير اليها التقارير. في سبتمبر أرسل المحامي العام في (دير الزور) ثلاث رسائل بالفاكس — استعادها محققو اللجنة فيما بعد — يحثهم فيها على التوقف عن خرق القانون السوري. وكتب في إحداها يقول “ان ذوي وأقرباء المعتقلين يسألون يومياً عن مصير أبنائهم وآبائهم وإخوانهم فعليكم الاستماع الى أقوالهم. ويوجد في ثلاجة المستشفى عدد من الجثث مجهولة الهوية وقد أصابها التفسخ بعد ان تمضى عليها مدة طويلة من الزمن”.
الإعتقال
سرعان ما ظهر اسم (مازن الحماده (ضمن قائمة المعتقلين في دير الزور، وكان اثنان من إخوته مطلوبين أيضًا بالإضافة إلى صهره. في أحد أيام مارس 2012 طلب طبيب من (الحمادة ) أن يقوم بتهريب حليب خاص للأطفال إلى امرأة في داريا ٬ وهي ضاحية من ضواحي دمشق تعيش في حالة ثورة، فقام (الحماده) هو وأبناء اخوته بجمع 55 علبة من لبن الأطفال وخبأوها تحت ملابسهم ٬ ثم سافر ليقابلها في مقهى، ولكن ما ان سلّم (الحماده) الأكياس حتى قيده عملاء الأمن هو وأبناء إخوته وغطوا وجوههم بقمصانهم ودفعوهم داخل ميكروباص. يقول (الحماده) : “لم يكن لديَّ فكرة عن وجهتنا.. طوال الطريق كانوا يقولون لنا سنعدمكم”.
بعد أن جرى نزع كافة ملابسهم باستثناء الملابس الداخلية قام رجال الأمن بضربهم ورميهم في زنزانة تبلغ مساحتها ما يقرب من 12 متراً مربًعا، ويوجد بداخلها 40 سجيناً آخر ٬ وقد علمنا أنهم في فرع المخابرات الجوية في مطار المزة العسكري أحد أكثر مراكز الاعتقال شهرة بسوء السمعة في البلاد.
بعد أسبوعين تم توزيع المساجين بين ثلاثة مهاجع صغيرة ٬ كل منها أطول قليًلا من 12 متراً وبعرض 7 أمتار،
يتكدس داخل كل منها مائة وسبعون شخصًا ٬ تلتف أذرعهم على سيقانهم ويميلون بذقونهم على ركبهم. قال لي (الحماده) : “أنت تتعفن.. ليس هناك هواء ولا شمس ٬ أظافرك طويلة لأنك لا تستطيع قصها ٬ لذا فعندما تحك نفسك تنزع جلدك”. لم يكن
المساجين يستطيعون أن يستحموا أو يغيروا ملابسهم الداخلية. وغطت أجسادهم تقيحات من الجرب وأمراض جلدية أخرى.
عبر البلاد يشرب المحتجزون بشكل دوري من مياه المراحيض ويموتون من الاختناق والأمراض. قال (الحماده): “أصيب أشخاص بالجنون… ويفقدبعضهم ذاكرته ويفقد آخرون عقلهم” ٬ في النهاية تم نقله إلى زنزانة انفرادية تقاسمها مع عشرة أشخاص.
في أحد الأيام تم جر (الحماده) وهو معصوب العينين إلى غرفة أخرى للاستجواب. بدأ رئيس قسم الاستجواب الذي كان (الحماده) يعرفه باسم (سهيل) في التأكد من هوية (الحماده) (كان بعض المواطنين يعُتقلون ويعُذبون بالصدفة ٬ أسماؤهم تشبه أسماء آخرين في القائمة). عندما طلب (سهيل) معلومات عن نشطاء المعارضة الآخرين الذين التقاهم في دمشق تردد (الحماده)، فبدأ التعذيب، “في البداية كانوا يستخدمون السجائر.. كانوا يطفئونها على ساقيَّ”. رفع ساق بنطلونه الجينز حتى الركبة وأراني أربع ندوب دائرية على ساقه اليسرى وخمًسا على اليمنى. كانت هناك حروق على فخذيه أيضًا. كما ألقوا مياهاً عليه وصعقوه بأسلاك ومهامز. لإيقاف التعذيب أعطاهم (الحماده) أسماء أصدقاء ماتوا بالفعل في دير الزور.
كانت الأسماء هي البداية فقط. سأله (سهيل) : “كم شخصًا قتلت من الجيش العربي السوري؟”. كان (الحماده) قد اعترف بالفعل أنه ينظم احتجاجات ويرفع فيديوهات على اليوتيوب ويتحدث مع الصحافة الأجنبية. قال: “كان التحدي هنا هو كيفية تأليف قصة عن كيف قتلت هؤلاء الناس؟” كانت يداه مقيدتين إلى أنبوبة قرب السقف. يقول: “كانت قدماي على بعد حوالي نصف متر من الأرض لذا كان كل ثقلي على معصمي… كنت أشعر أن القيود تفعل فعل المنشار، انها تقطّع يديَّ. بقيت لمدة نصف ساعة ثم بدأت في الصراخ، ولأني استمريت في الصراخ فقد دفعوا بحذاء عسكري في فمي وقالوا لي: عض هذا الحذاء كي لا تصرخ”. كانت هذه الطريقة في التعذيب مستخدمة في أغلب المعتقلات السورية الخاصة بالأمن الاستخباراتي بتنويعات مبتكرة. كانت معاصم الكثير من المحتجزين تربط خلف ظهورهم قبل تعليقهم منها، وكان البعض يبقى معلقاً لأيام ٬ وآخرون حتى يتوقفوا عن التنفس. قال مساعدو (سهيل) ل (الحماده) إنه إذا اعترف بحمل السلاح سيتم إطلاق سراحه. لم يعترف فكسروا أربعة من ضلوعه. عند تلك النقطة ذكر أنه كان مسلًحا ببندقية صيد فأنزلوه. ولكن (سهيل) أراد أن يتضمن الاعتراف كلاشينكوف كي تناسب التهمة مع الإرهاب. رفض (الحماده)، وتابع: “نزعوا عني ملابسي الداخلية وأحضروا إبزيًما خاصًّا بالسباكة مثل الذي يستخدم في ضبط الضغط في الخراطيم. “وضعوه على قضيبي وبدأوا في تضييقه” قال (الحماده) إن (سهيل) سأله حينها: “هل ستعترف أم أقطعه؟” وافق (الحماده) على أنه كان يحمل كلاشينكوف فأطلق سهيل الإبزيم. وسأله عن عدد مخازن الطلقات التي كان (الحماده) يحملها معه. فتسأل (الحماده): “كم مخزناً تريد أن يكون بحوزتي؟” ولكن (سهيل) ذكره أنه يجب أن يعترف وحده فقال (الحماده): “لديَّ خمس رصاصات”. لم يكن ذلك
كافياً. قال له (سهيل): “أريد ان تذكر مخزن رصاص”. وتصاعد التعذيب حتى أقرّ (الحماده) بكل شيء سألوا عنه.
خلال مئات المقابلات مع شهود وجدت لجنة العدالة ان هناك نمطًا سائًدا في أساليب التحقيق عبر جميع فروع أجهزة الأمن. كان الناس يحتجزون تبًعا لسياسة (خلية الأزمة). وبالإضافة إلى تحديد “أهداف جديدة” كانت الأجهزة تتشارك في نتائج تلك المقابلات. كان المحتجزون يعيشون في ظروف غير إنسانية لشهور أو سنوات وبمعزل عن النظام القضائي.
ولا تخدم الاعترافات على ما يبدو أي أغراض خاصة بجمع المعلومات ٬ ولكنها تعطي مظهًرا قانونياًّ لعملية الاحتجاز. يمكن
أن يتم اتهام النشطاء ضد الدولة بجرائم جادة بعد اعترافهم بجرائم عنيفة ٬ وإذا أدينوا يمكن أن يبقوا في السجن لسنوات. كما
أنها تساعد على استمرار وهم المؤامرة الواسعة ضد سورية بينما يعترف المحتجزون باشتراكهم في التحريض أو الإرهاب.
كان للوحشية وقعها على المحققين أيضًا. في حالة واحدة على الأقل ترجى أحد المحققين معتقًلا أن يعترف بأي جريمة كي
يستطيع التوقف عن إيذائه. قال (كريس إنجلز) من لجنة العدالة: “كان رأيهم إلى حد كبير أن عليهم الإتيان بنتائج… كانت العواقب لعدم أدائهم وظيفتهم بشكل جيد حقيقية، وكانت هناك أدلة لما حدث لأولئك الذين تساهلوا في أداء مهامهم “. كان السطر الأخير في سياسة الاستهداف الخاصة (بخلية الأزمة) يأمر رؤساء الأفرع الأمنية ب “موافاة مكتب الأمن القومي دورياًّ بأسماء العناصر المتخاذلين”، وانتهى الأمر ببعضهم في زنزانة (الحماده).
بعد عدة أشهر وقف (الحماده) وابن أخيه (فهد) في طابور لكي يضعا بصمات اصابعهم على تقريريهما. تصور (الحماده) أن التقريرالخاص به يتضمن اعترافاً. لم يكن يعرف لأن قراءة التقرير لم تكن متاحة. وقف فتى يبلغ من العمر سبعة عشر عاًما خلف (الحماده) و(فهد) في الطابور. عندما علم الحراس أنه من داريا ٬ ضاحية دمشق ٬ دفعوه إلى الأرض. جلب أحدهم مشعلاً للحم المعادن وحرق الفتى “من هنا إلى هنا” ٬ قالها (الحماده) وهو يرسم بإصبعه خط فكه. “ثم أداروه وحرقوا رقبته وظهره بالكامل…ثم وجهه أعني انه كان يحترق، كان يذوب”.
دمعت عينا (الحماده) واحمرتا وهو يتذكر هذه الواقعة، خانه صوته وبكى بيأس. حاول لمدة يومين هو وبقية المساجين في المهجع معالجة جروح الفتى وهو يموت. عندما أتى الحراس لاستعادة الجثة صرخ (الحماده) بهم، ورًدا على موقفه هذا علقوه من معصميه لعدة ساعات. قال لي: “أنت تريدهم أن يقتلوك على أي حال لكي تخلص من كل ذلك. أنت منهك من التعذيب. منهك من النوم ومن الصحو ومن الحياة كل يوم”.
المستشفى (601)
بعد حوالي عام من الاعتقال وفي بداية عام 2013 كان (الحماده) مستلقياً على أرض حظيرة للطائرات. كان قد تم استجوابه وتعذيبه سبع أو ثماني مرات. فأصيب بالتهاب في عينه أخذ يقطر قيًحا. وهو مصاب بالغرغرينا في جلد ساقيه. كان يجب على المساجين أن يقفوا عندما يدخل الحراس إلى الزنزانة، ولكن (الحماده) لم يستطيع الوقوف في ذلك اليوم كما هو مفروض عليه، بل قال للحارس: “أنا أتبول دًما”. في اليوم التالي أتى رئيس المحققين إلى الزنزانة وأبلغ (الحمادة) أنه سيذهب إلى المستشفى (601 ) وهو مستشفى عسكري يقبع عند سفح جبل المزة، حيث يجثم قصر الرئاسة في الأعلى. قال رئيس المحققين ل (لحمادة) أيضًا أن عليه ان ينسى اسمه: “اسمك الآن 1858” كان “الحمادة” قد سمع عن المستشفى ( 601) ، حيث يوجد عدد من المحتجزين هناك، وقال إن من عادوا أطلقوا تحذيراً: “هذا ليس مستشفى — إنه مذبح”. وبالرغم من إصابة (الحمادة) فقد ضربه الحراس في الطريق إلى المستشفى، واستخدم أحدهم أنبوباً أخضر لهذا الغرض. وبسبب اللون الأخضر كان عملاء الأمن في أنحاء سورية يتهكمون على المساجين بتسمية هذا السلاح (الأخضر الإبراهيمي) الذي كان في ذلك الوقت مبعوث الأمم المتحدة الخاص لسورية.
وعلى طول ممر المستشفى أخذ الممرضون من الرجال والنساء بضرب (الحمادة) بالأحذية وهم يدعونه بالإرهابي، وعندما وصل إلى العنبر تم ربطه إلى السرير مع سجينين آخرين. ثم سألته ممرضة عن أعراضه وضربته بعصا. ويسجل تقرير الأمم المتحدة لتلك السنة: “انه تم اضافة بعض الذين يمارسون المهن الطبية إلى قائمة الذين يعاملون المساجين معاملة سيئة في مستشفى ( 601 )”. كان (الحمادة) يعاني كثيراً من شدة الألم ومن عدم التصديق.
تلك الليلة استيقظ (الحمادة ) من أجل استخدام الحمام، وكان الحارس يقوم بضربه طوال الطريق إلى دورة المياه، ولكنه دخل هناك بمفرده. وحين فتح باب أول حمام وجد بدلخله كومة من جثث محطمة وزرقاء. ووجد اثنين آخرين في الحمام الثاني ضامرين وبلا عينين، كما وجد جثة أخرى بجوار الحوض. خرج (الحمادة) مصاباً بالهلع ٬ ولكن الحارس أعاده وقال له: “تبول فوق الجثث”. لم يستطع ٬ بدأ يشعرأنه يفقد إحساسه بالواقع. حسبما قال محققو الأمم المتحدة ٬ فإن المحتجزين الذين يموتون كانوا “يحفظون في الحمامات” في عدة أفرع أمنية في دمشق.
في وقت لاحق من نفس الليلة دخل جنديان في حالة سكر إلى العنبر وصاح أحدهما: “من يريد دواء؟” رفع عدد من المعتقلين
أيديهم. لم يكن الأطباء قد أعطوا (الحمادة) أي أدوية — فقط كيس شبه فارغ من المحاليل— ولكن أحد شركائه في المهجع والذي كان قد قضى بضعة أيام في العنبر حذره ألا يتطوع. اختار الجندي سجيناً متحمًسا، ثم استل الجندي سلاًحا حاًّدا ٬ وبينما يركع السجين عند قدميه، ورأسه في مواجهة الأرض، بدأ في ضرب قاعدة جمجمته فاصًلا عموده الفقري عن رأسه ثم أمر مريضًا آخر بإلقاء الجثة في الحمام. قالت تقارير الأمم المتحدة عن المستشفى 601 ” كان يجري تعذيب الكثير من المرضى حتى الموت في تلك المنشأة”، حتى ان الجندي كان يطلق على نفسه اسم (عزرائيل) ، ويتذكره ناجون آخرون حين كان يقتل سجناء بطرق مماثلة في وحشيتها.
قال لي (الحمادة ): “عندما رأيت ذلك أقسم – تلك كانت اللحظة التي فكرت فيها أن ذلك هو مصيري… سأموت هنا”. في اليوم
التالي ترجى طبيباً أن يعيده إلى فرع المخابرات الجوية. لاحظ الطبيب أن (الحمادة) لا يزال مريضًا، فقال (الحماده): “لا لالا.. أنا شفيت تماماً”، وفي اليوم الخامس اصطحبه إلى خارج مستشفى (601 ) نفس الحراس الذين جاؤوا به وهم يقولون له: “يا حيوان ٬ يا ابن الكلب… لم تمت بعد”. وضربوه طوال طريق العودة إلى الفرع ثم علقوه من رسغيه لأربع ساعات.
في يونيو 2013 أحيلت قضية (الحمادة) إلى القضاء وتم تحويله لسجن ( عدرا) في دمشق ٬ حيث تقدم بطلب لإثبات التهم
المنسوبة إليه (فالسجون السورية تابعة من الناحية الرسمية لإشراف القضاء وليس للأجهزة الأمنية) فجاء الرد المكتوب أنه قد تم إلقاء القبض عليه “بجريمة الإرهاب وقد حرم من حريته منذ 5 يونيو 2013 ” —أي في نفس تاريخ توجيه التهم إليه، وهكذا من الناحية الرسمية فإن الأشهرالخمسة عشر التي قضاها داخل فرع المخابرات الجوية في مطار المزة الحربي لم تحدث قط.
في نهاية أغسطس قامت الحكومة السورية باطلاق قذائف تحمل غاز السارين على أحياء ذات كثافة سكانية عالية في دمشق ٬ فقتلت أكثر من ألف وأربعمائة شخص. وكرد فعل على ذلك أعلن الرئيس أوباما حينها، وكان قد أكد التزامه في وقت سابق بأن استخدام الأسد للأسلحة الكيميائية هو خط أحمر: “سيتوجب على الولايات المتحدة حينها أن تقوم بعمل عسكري ضد أهداف النظام في سوريا”. وقال إنه سينتظر موافقة الكونجرس ولكنه أضاف: “ما هي الرسالة التي سنرسلها إذا كان ديكتاتور يستطيع أن يقتل مئات الأطفال بالغاز علناً ولا يدفع الثمن؟”.
في أحد الأيام تم نقل (الحمادة) وعدد كبير من المساجين إلى المزة دون أي تفسير، وفي تلك الليلة جرى نقل عدد كبير من المساجين إلى حظيرة للطائرات فارغة في القاعدة الجوية، ويعتقد أنه تم إطلاق صاروخ واحد على الأقل لغاز السارين من المزة ولذلك كانت هدفاً منطقياًّ لغارة جوية أمريكية. وداخل حظيرة الطائرة كان الحراس يسخرون من المعتقلين، قالوا لهم إنه عندما يقصف الأمريكيون سورية فسيقتلون جميًعا.
في بداية سبتمبر تراجعت الولايات المتحدة عن احتمال شن الحملة العسكرية وأعيد (الحمادة )إلى محكمة الإرهاب في دمشق
حيث تم أخيًرا النظر في قضيته. لاحظ القاضي أنه قد اعترف بأنه هاجم نقاط تفتيش وقتل جنوًدا. رفع الحمادة بنطاله وأرى
القاضي أثر حريق السجائر كما رفع رسغيه كاشفاً عن الندوب البنفسجية العميقة وأظهر الآثار السوداء والبيضاء للضرب
على جذعه، كان مثل ذلك المشهد مألوفاً داخل قاعة المحكمة. قال القاضي في ردّه على كل التهم: “غير مذنب”.
قبل إطلاق سراح (الحمادة) تم استجوابه مرة أخرى من عملاء قسم الأمن السياسي وسألوه عن الاحتجاجات التي حضرها من
سنتين. اعترف فوًرا. “قلت نعم كنت في الاحتجاجات. ونعم، قلت إن الرئيس وغد!” وأضاف: ” لقد عشت داخل الجحيم بالفعل. وإذا كان الأمر الآن يتطلب الاعتراف فسأعترف بكل شيء”. بعد وقت قصير أعيد (الحمادة) إلى قاعة المحكمة، وبعد ان تعرف عليه القاضي، أسقط القضية فورا.
العودة والهرب
عاد (الحمادة) إلى دير الزور التي وصفها بأنها “مدينة أشباح”، بعد ان تدمر الكثير من المباني خلال عامين من القتال المكثف والغارات الجوية. كان اثنان من أولاد أشقائه ما زالا قيد الحجز داخل فرع المخابرات الجوية في دمشق، كما اختفى أفراد آخرون من أسرته في مراكز أمنية أخرى. خلال اعتقال (الحمادة) كانت الثورة قد تحولت إلى حرب طائفية، وتحولت (جبهة النصرة) الى قوة كبيرة لا ينافسها في الوحشية إلا (داعش). أما مجموعات المعارضة المعتدلة فقد كانت موجودة ايضاً ولكنها في الغالب تحت قيادة أمراء حرب فاسدون وتركها العديد من المقاتلين إلى فصائل جهادية أكثر قدرة، بالإضافة الى ان العديد من الثوريين الذين قاتلوا يوًما ما من أجل الحرية أصبحوا الآن راديكاليين أو قتلوا أثناء الحرب، بينما المحاربون الموالون للأسد أتوا من العراق ولبنان وأفغانستان وإيران، وكان لداعش تواجد مهم في (دير الزور). يقول (الحمادة): “كانوا يقتلون جميع نشطاء الإعلام والنشطاء الديمقراطيين ٬ وفي كل مرة كانوا يفعلون ذلك بطريقة هوليوودية مختلفة”.
هرب (الحمادة) إلى تركيا، اذ استقل طوافة يستخدمها المهربون متوجهة إلى اليونان، ومن هناك سافر لمسافة أكثر من ألف وسبعمائة ميل إلى هولاندا حيث كانت شقيقته قد انتقلت اليها قبل الحرب. انه يتذكر الهجرة بهزة كتف أو بعبارة أخرى كأنها لا شيء.
تم تأكيد وتوثيق ما سرده (الحمادة) عن الأعمال الوحشية داخل المستشفى ( 601 ) من خلال ما يقارب خمسة وخمسين ألف صورة تم تهريبها من سورية عن طريق ضابط في الشرطة العسكرية يعرف باسم (قيصر) وهو الاسم المستعار له. وقد وثّق (قيصر) وزملاء له قبل الحرب مشاهد عديدة لجرائم وحوادث مرور في دمشق يكون أحد أطرافها شخصيات عسكرية، ثم كان يقوم بتحميل تلك الصور على كمبيوترات حكومية مخصصة لهذا الغرض ثم يقوم بطبع تلك الصور ليرفقها بعد ذلك مع شهادات الوفاة الرسمية. ولكن ابتداء من عام 2011 لم تعد الجثث لأشخاص قتلوا في حوادث السير بل كانت لمعتقلين تم جمعها يومياًّ من داخل الأفرع الأمنية لإيصالها إلى المستشفيات العسكرية.
قام فريق (قيصر) بتصوير الجثث الموجودة في مشرحة المستشفى (601)، وكان لكل جثة يجري تصويرها رقم يميزها،
ويتكون عادة من أربعة أرقام — مثل رقم (الحمادة) 1858 —وهو مكتوب عادة بخط رديء على ورقة أو على شريط لاصق أو على الصدر أو على الجبهة بقلم عريض، كما يوجد رقم آخر يشير الى فرع المخابرات الذي قتل فيه المريض، وبلغ عدد الجثث الموجودة ما يقارب 1100 جثة، كان فريق (قيصر) يصنف أكثر من خمسين جثة يومياًّ- هزيلة ٬ مشوهة ٬ مقطعة ٬ محروقة ٬ مضروبة بالرصاص ٬ مخنوقة ٬ مكسرة، أو حتى ذائبة.
حسبما ورد في تقرير الأمم المتحدة ٬ بعد أن انتهى فريق (قيصر) من التوثيق حيث كان طبيب المستشفى يكتب عادة: “أزمة
قلبية” على شهادة الوفاة، وتحمّل بعدها الجثث على شاحنات لإلقائها في مكان بعيد، وفي حالات نادرة تمكن أفراد عائلة معينة ما من استعادة جثمان فقيدهم ولكن محققي الأمم المتحدة لاحظوا أنه عند كل حالة معروفة “كانت الجثة تحمل علامات تعذيب شديد”. وأكمل التقرير “بعض الجثامين كانت تعاد من مشرحة المستشفى إلى العائلة ٬ فقط بعد موافقة العائلة على إفادة تؤكد أن المتوفى قتله “إرهابيون”.
هرب (قيصر) من سورية في أغسطس 2013 ومعه عدد من وحدات تخزين (فلاشه) للكومبيوتر مخبأة داخل جواربه. وبقيت الصور موضوعاً سرّياً حتى تسنّى ل (قيصر) ان يتحدث مع فريق من المحققين الدوليين وخبراء في الطب الشرعي في شهر يناير التالي، وبدون وجود مفتاح أو شيفرة تستطيع ان تربط عن طريقها أسماء المعتقلين بأرقام الجثث فسيكون من الصعب تحديد هوية المتوفين، خاصة وان الكثير من الوجوه تم تشويه معالمها بإتقان أو اقتلعت منها عيونها. لقد نشر النشطاء السوريون المقربون من (قيصر) عدة آلاف من الصور على الإنترنت مما سمح لأفراد العائلات أن يبحثوا عن أحبائهم المفقودين. ثم جرى توزيع الصور على مخيمات اللاجئين أيضًا حيث اكتشفت بعض العائلات أنهم كانوا يدفعون رشاوى لضمان معاملة جيدة لأقارب تم قتلهم منذ زمن بعيد، وحتى الآن تم التعرف على سبعمائة وثلاثين ضحية بمن فيهم بعض زملاء (الحمادة) الذين كانوا معه في الزنزانة.
الخاتمة
بين الصور التي بحوزة (قيصر) وبين القضية التي تشغل (لجنة العدالة والمساءلة) قال (ستيفن راب) : “عندما تحين لحظة العدالة، سيكون قد توفر لدينا أدلة أفضل مما كان لدينا في أي مكان آخر منذ أيام محاكمة (نورمبرج)”.، كما ان (ويلي) و(إنجلز) يعتقدان أنه إذا وصلت هذه القضية للمحكمة فإن (لجنة العدالة) لديها ما يكفي من الأدلة لكي تدين (الأسد) ومعاونيه بعدد من التهم التي تتضمن القتل والتعذيب وأعمالًا أخرى ضد الإنسانية.
في العام الماضي عندما سئل الأسد عن صور (قيصر) خلال مقابلة مع مجلة (فورين أفيرز) تساءل (الأسد) وهو يردد: ” من قال إن الحكومة فعلت ذلك وليس المتمردين؟ من قال إن هذه ضحية سورية وليس شخصًا آخر؟”.
في عام 2011 ادعت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة أن طفًلا يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاًما ويدعى (حمزة الخطيب) تم تعذيبه حتى الموت داخل المعتقل. وكرد على ذلك توصل تحقيق قام به السوريون إلى أنه بعد وفاة الطفل بوقت قصير التقط “مصور شرعي.. ست صور ملونة” للجثمان “وأطلقنا عليها الرقم ثلاثة وعشرين”، وأضافت تلك التحقيقات السورية أن الصور أظهرت “عدم وجود علامات ضرب وعدم وجود علامات تعذيب ” وأن الطفل قتُل رمياً بالرصاص وذلك “على الأغلب من قبل زملائه الإرهابيين”. وأضاف التحقيق السوري أن الطبيب الذي أبلغ أن( قضيب ) الطفل مقطوع قد “أساء تقدير الموقف في فحص طبي سابق”.
تتضمن مجموعة (قيصر) ست صور لجثمان (حمزة الخطيب)، تظهرعيناه مغلقتان من الورم، ولون رأسه بنفسجي غامق من شدة الضرب، كما ان قضيبه غير موجود، وفي كل صورة تظهر أيضاً بطاقة ملطخة بالدماء كتب عليها رقم (23).
وفي رد رسمي على تحقيق الأمم المتحدة أشارت البعثة السورية الدائمة في الأمم المتحدة إلى الدستور السوري والقوانين المحلية السورية لتستشهد بها كدليل على أن “الادعاءات بوجود اعتقالات تعسفية وانتهاكات للقانون في أي من مؤسساتنا “لم تعد مقبولة بعد الآن”. ويتابع رد البعثة السورية “ليس لدينا مساجين تم اعتقالهم، خارج الاطار القانوني، لأمور تتصل بالتظاهر السلمي. اما إذا كان سؤالكم يتعلق بأفراد استخدموا أسلحة أو ارتكبوا نشاطاً إرهابياً ضد الدولة فتلك مسألة مختلفة تماما”.
في 2011 قال الأسد ل (بربارة والترز) إن مشاركة سورية في الأمم المتحدة “هي لعبة نلعبها ولا يعني هذا أننا نصدقها”.
من المنتظر أن تعقد هذا الأسبوع جولة جديدة من المفاوضات بين الحكومة السورية والمعارضة في جنيف حيث ينتقل
مسؤولو الأمم المتحدة بين الوفدين اللذين لا يزالان يرفضان أن يتقابلا وجهاً لوجه. قبيل المفاوضات قال لي (بركات) – الواشي السابق في دمشق – إن وفد المعارضة طلب منه نسًخا من الوثائق التي سرقها من حكومة الأسد ٬ ولكن الفد فشل مع ذلك في ترتيب عملية استلامها.
ويتفادى (ويلي) وطاقم (لجنة العدالة والمساءلة الدولية) التعليق على تغيير النظام. قال لي: “نحن لا نريد التورط كثيًرا في المعاناة السياسية” ضمن جهود إنهاء الحرب السورية “نحن ببساطة واثقون- ولا أظن أنها غطرسة- من أن عملنا سيرى النور في المحكمة في وقت قصير نسبياًّ”.
يذهب (الحمادة) الموجود في هولاندا إلى جلسات علاج طبيعي لإعادة تأهيل أطرافه المشوهة ويدرس الهولاندية وينظم احتجاجات مناهضة للأسد ضمن الميادين العامة مع أن الحضور يكون قليلا، ويتساءل دوماً عن أبناء إخوته وعن أخيه وعن زوج أخته وعن أصدقائه العديدين المفقودين. يبكي وهو يقول: “أين هم؟ هل هم على قيد الحياة؟ هل هم أموات؟” تطلب شقيقته في سورية شهادات وفاة من الشرطة العسكرية بلا جدوى، ويردد (الحمادة) كل يوم قوله “تعاسة.. إنها تعاسة. إنها تعاسة. إنه موت. إنها الحياة في الموت”.