نهاية الماركسية الارثوذوكسية
دوغلاس كيلنر
لقد تكررت أزمات الماركسية خلال القرن الماضي. وترجع جذور مفهوم “الأزمة” في النظرية الماركسية الى “الأزمة الرأسمالية” نفسها التي ارتبطت بدورها بأفكار انهيار الرأسمالية وانتصار الاشتراكية. وهكذا فان مصطلح “أزمة” في الحوار الماركسي يشير الى احتمال انهيار او كما يشبهه المؤرخ (هابرماس) بمرض ينهي حياة المصاب. وجرى إطلاق مثل هذه الدعوات خلال السنوات الأخيرة بعد انهيار (الاتحاد السوفييتي) للقول ان الفترة الماركسية وصلت الى نهايتها وأنها نظرية عفا عليها الزمن، وبالتالي انتهت أزمة الماركسية بانهيارها ولم تعد هذه النظرية والسياسة التي تطرحها تصلح للعصر الحالي.
خلال الحرب العالمية الأولى فشلت الأممية الثانية ومعها الأحزاب والشخصيات الماركسية في إيقاف الحرب مما وضع موضع التساؤل القوة السياسية للماركسية كحركة تنظيمية. كما ان عجز الثورات في أوروبا بعد الحرب العالمية أنتج أزمات ماركسية جديدة، حيث برزت الأنظمة الفاشية وهي تهدد بإلغاء كل الحكومات والأحزاب الماركسية الموجودة. وبعد الحرب العالمية الثانية صارت عملية دمج الطبقة العاملة وفي ظروف استقرار الرأسمالية داخل النظم الديموقراطية الرأسمالية بمثابة المقدمة او الإنذار بعدم جدوى الماركسية التي كانت مثلها مثل الرأسمالية تعيش في ازمة طوال القرن، وكما تمكنت الرأسمالية من البقاء كذلك حافظت الماركسية على التنفس في تلك الظروف، ومثلما دفعت الأزمات المتعددة الرأسمالية الى إيجاد استراتيجيات جديدة من أجل البقاء ساهمت بدورها لاحقا في تقوية النظام الرأسمالي (مثل: الامبريالية، الرأسمالية المنظمة، رأسمالية الدولة، قطاع الدولة الخدمي، الخ) كذلك الأمر بالنسبة لأزمات الماركسية التي دفعت نحو تطوير وتحسين نظرية ماركس وانجلز الأساسية. فالمادية التاريخية هي في مضمونها نظرية في التاريخ بالدرجة الأولى وبالتالي فان مقولاتها تتطلب التعديل والتطوير مع تكون ونشوء أوضاع وظروف تاريخية جديدة، وان التحول في حياة الديالكتيك الماركسي والنظرية الماركسية سيستدعي تطوير وإعادة بناء في النظرية نفسها وهذا يعني التخلي عن كل ما هو بال او عفي عليه الزمن، أي كل تلك المعتقدات التي وضعها التطور موضع التساؤل.اما بالنسبة لكل من يدعي ان الماركسية قد عفا عليها الزمن في المرحلة المعاصرة فيجب التذكير ان الماركسية ستستمر باعتبارها مرجعاً نظريا ومصدرا فكريا لتعليل وتفسير القضايا والتطورات التي تحصل داخل المجتمعات الرأسمالية، وهي تتضمن مصادر سياسية قادرة على مساعدتنا للاستمرار في عملية التحول والتطوير، وأنها ستبقى مكونا هاما في السياسة التقدمية والراديكالية في عصرنا هذا، مع ان انهيار الاتحاد السوفييتي يشير الى انهيار أحد أوجه الماركسية.
أزمة الماركسية
مرّت الماركسية في أزمتها طوال القرن العشرين، حيث تطلبت الأحداث المتجددة اعادة النظر من اجل تطوير النظرية، واستمر كل من ماركس وانجلز ومن جاء بعدهما من الماركسيين بإعادة بناء النظرية لتأخذ بعين الاعتبار التطورات التاريخية ولتتدارك نقاط الضعف والثغرات في النظرية الأصلية، وبهذا المعنى لم يعد تعبير “أزمة الماركسية ” يدل على عدم جدوى الماركسية كما هي الحال مع النظريات الاجتماعية الأخرى التي تواجه تحديات مشابهة. ان مثل هذه الأزمات تستدعي اجراء تعديلات في النظرية على ضوء الشروط التاريخية والتجربة المستجدة، ومنذ وفاة ماركس أجرى العديد من الماركسيين تعديلات ساهمت في تقوية النظرية الماركسية.
يمكن اعتبار انهيار الاتحاد السوفييتي كحدث مرحلي أساسي ان توجهاٍ ماركسيا معينا وصل الى نهايته، والمقصود بهذا التوجه هو “الماركسية الأرثوذكسية” التي اعتبرت نفسها نظرية تعكس حركة التاريخ، التاريخ الذي سيضمن انتصار الاشتراكية، او حتمية انهيار الرأسمالية والانتقال نحو الاشتراكية ثم الشيوعية. لقد ادّعت هذه الماركسية انها تستمد مقوماتها من التحليل العلمي للتاريخ وهي لذلك تتميّز بالحتمية والدجماتية والأرثوذوكسية. لقد جرى تأسيس الأرثوذكسية في الاتحاد السوفيتي وتم نشرها عبر صيغ مختلفة في العالم وأصبح لها جذور ممتدة في افكار ومهام الحركة الثورية البروليتارية تؤكد حتمية اطاحة العمال بالنظام الرأسمالي. لقد ادعت الماركسية الأرثوذوكسية ان الاشتراكية قد تمّ إنجازها في الاتحاد السوفييتي وان انتصارها على الصعيد العالمي سيضمنه نجاح الشيوعية السوفيتية. لقد أفرزت هذه الصيغة من الماركسية الأرثوذكسية نتائج ضارّة ومؤذية على مشروع بناء الاشتراكية، فالاعتقاد بان التاريخ يسير بنفسه نحو الاشتراكية وان الكائن سيجري إنجازه مسبقا في سياق التاريخ أدى الى الاستسلام لذلك السياق التاريخي والى الانقياد وراء تعاليم القادة الحزبيين ممن يحرصون على الادعاء بقدرتهم على قراءة اتجاه مسيرة التاريخ فأنتجوا الغطرسة والدجماتية وانشأوا صيغة من الماركسية قادرة على تبرير إعادة انتاج مجتمعات يعم فيها الظلم. لقد انتهى هذا الصنف من الماركسية وفقد كل قيمة، ولم يعد له أي مبرر للاستمرار، ولحقت تشويهاته بالماركسية اللينينية ومشتقاتها من “اشتراكية علمية” وغيرها.
الحقيقة ان “الماركسية النقدية” التي تبقى منفتحة وغير دجماتية وبالتالي قادرة على توفير مصادر نظرية وسياسية وتكوين نظرية نقدية وسياسة راديكالية لهذا العصر. ان التحدي الرئيسي الذي تواجهه الماركسية النقدية يكمن في قدرتها على مراجعة كيفية اعادة الرأسمالية بناء نفسها وبناء آلية نظامها الجديد، وسيقع على عاتق الماركسية فقط تقديم مثل هذه الإمكانية وتحليل نظري لمثل هذه المهمة كدليل على كونها أداة لا غنى عنها لفهم خصائص الرأسمالية المعاصرة، لأن الماركسية هي في الأساس نظرية حول الرأسمالية وجذورها موجودة في الاقتصاد السياسي للنظام الاجتماعي الحالي. وما دامت التغيرات الاقتصادية الجديدة هي عملية تجري باستمرار والعوامل الاقتصادية تلعب دوراً أساسيا في كل جوانب الحياة الاجتماعية فيتبع من ذلك ان نظرية حول الرأسمالية تبقى عنصرا مكوناً لنظرية اجتماعية راديكالية. كما ان عدم ظهور نظرية نقدية اقتصادية حول الرأسمالية كبديل عن الماركسية، يؤكد كونها عنصرا ضروريا في النظرية الراديكالية الاجتماعية. ان التحدي الخاص الذي تواجهه الماركسية النقدية اليوم هو امكانيتها تقديم تحليل لعملية إعادة هيكلة الرأسمالية في تشكيلتها الحديثة او الرأسمالية الذكية، وهنا يمكن القول ان النظرية الماركسية تستطيع ان تقدم أفضل الاطروحات والمصادر لإنجاز مثل هذه المهمة الكبيرة، وهي تستمر اليوم في تقديم الأدوات الضرورية لتطوير نظرية اجتماعية واتجاهات سياسية راديكالية لعصرنا. فالماركسية اساساً هي نظرية حول الرأسمالية ومتجذرة في الاقتصاد السياسي للنظام الاجتماعي الراهن. ولكن لا بد للنظرية الماركسية من تطوير مقولات وتحليلات جديدة قادرة على صياغة اطر نظرية حول الوضع الراهن. هناك العديد من الماركسيين الذين يقدمون مثل هذه التحليلات التي تساهم في اجراء تعديلات على الاقتصاد السياسي للماركسية، بالإضافة الى وثائق العقود الماضية والمتعلقة بالخطوات المتقدمة التي خطتها الماركسية في مجال النظرية الاجتماعية والثقافة والفلسفة ومجالات الدراسات الأكاديمية المتنوعة والتي تعكس بمجملها البنية الجديدة للماركسية في هذا العصر.
ومن هذا المنظور نكتشف محدودية نظريات ما بعد الحداثة التي تمكنت من مراكمة ما يشبه الزخم الثقافي جراء محاولات نقد الماركسية كتلك النظريات التي تدّعي ب “نهاية التاريخ” وترافقت مع بداية انهيار الشيوعية وقيام النظام الرأسمالي بإعادة بناء نفسه وظهور احتمالات ومعضلات جديدة على الساحة التاريخية بطريقة تزداد تسارعاً والحاحاً، ومن السخافة في هذه الحالة الادعاء ب “نهاية التاريخ” او كما ادّعى عالم الاجتماع الفرنسي (بودريلارد) عام 1976 انها نهاية الاقتصاد السياسي ، وكلاهما ادّعاء لا قيمة له خاصة وان اعلانهما اتى في وقت كانت الرأسمالية تعيد بناء نفسها على المستوى العالمي، في وقت يتطلب البحث فيه عن حلول للمعضلات السياسية لعصرنا والتي تكتسب باطراد طابعاً عالميا (الأزمة العالمية للدين العام، أزمة البيئة العالمية، عولمة الصراعات المحلية والإقليمية مثل حرب الخليج والأزمة اليوغوسلافية وغيرها). من هنا يمكن القول ان الماركسية تتضمّن كافة المصادر لإنشاء نظرية نقدية حول العصر الحالي، وان اتخاذ موقف سلبي منها ورفضها بسبب الانهيار السياسي للشيوعية السوفياتية، التي هي في الأساس تشويه للنظرية، هو رفض تبسيطي وغير مجدي.
تجديد الفكر الاشتراكي
من يقول ان النظرية الماركسية قد عفا عليها الزمن لابد انه يقف في الصف الأيديولوجي الشديد العداء لها او واحد من الجاهلين أو من اشباه المثقفين. ولكن الى جانب النظرية الماركسية، ماذا عن السياسة الماركسية؟ عندما يتعلق الأمر ب (النظرية الماركسية) فهي ما زالت حية تتدفق، اما بالنسبة ل (السياسة الماركسية) فهي تعيش في حالة من التخبط والتعثر، بل يمكن القول انه وخلال العقود الماضية وبينما كانت النظرية الماركسية تتقدم وتتطور أصاب السياسة الماركسية تدهورا مستمرا وانحدارا في مواضيع الاطروحات والنشاطات ضمن الحركات السياسية المعاصرة. بل ظهر توجه لدى الماركسيين الراديكاليين بالتخلي عن الاشتراكية في السياق الحالي، في نفس الوقت الذي أخذت الأحزاب الاشتراكية داخل الدول الرأسمالية الغربية بالانحدار والضعف في قوتها ونفوذها. كما أصاب الضعف النضالات العمالية والتي كانت ترتبط تقليديا بالسياسة الطبقية في النظرية الماركسية، مما يستدعي التساؤل حول احتمال التخلي عن طرح قضية الاشتراكية والثورة. يجب الاعتراف انه لا بد من النظر مجددا في قضية الاشتراكية وموضوع التحول الاجتماعي ولكن من خلال النظرية السياسية للماركسية لارتباط هذه المكونات معاً ولأن الماركسية تطرح رؤيتها السياسية من وجهة نظر طبقية. ان النظرية الطبقية في الفكر السياسي تشكل مساهمة ثابتة ودائمة للنظرية الماركسية.
خلال 12 عاما الماضية شهدت الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان أخرى من العالم، بدرجة اقل او أكثر، انقساما وتمايزا شديدا ويتزايد التناقض حدة بين الغني والفقير، بين من يملكون ومن لا يملكون، والادعاء بعدم جدوى الطبقات الاجتماعية وان الصراع الطبقي قد عفا عليه الزمن، هو ادعاء فارغ في مواجهة الواقع الفعلي وما تمليه الحقيقة التي لا يمكن الهروب من وقعها.
الطبقة المؤهلة بامتياز لإنجاز مهمتها الثورية بحسب النظرية الثورية التي طرحتها الماركسية الكلاسيكية، وهي طبقة البروليتاريا، أو الطبقة العاملة الصناعية، هذه الطبقة مصابة اليوم بالضعف مع تراجع القطاع الصناعي في الدول الغربية الصناعية. لقد تساءل النظريون الماركسيون منذ (مدرسة فرانكفورت) عن إمكانية اعتبار البروليتاريا قضية ثورية كما ورد في النظرية الثورية الأصلية لماركس. ويتسع الاعتقاد ان الماركسية الكلاسيكية تغالي في مسألة أولوية الطبقة وتقلل من أهمية العرق والجنس، من المؤكد ان الاضطهاد تجري ممارسته داخل مجالات اجتماعية متعددة ومختلفة بالإضافة الى الاقتصاد والمصانع لا بد من اخذها في كليتها بعين الاعتبار بالإضافة الى الطبقة. رغم انه سيكون من الخطأ تجاهل مركزية دور الطبقة والسياسة الطبقية. السياسة الثورية اليوم يجب ان ترتكز على التعدد الثقافي وعلى التوجهات المتعلقة بالجنس والعرق وتعتمد على أساس أوسع من النظرية الماركسية الأصلية. ويبدو ان صيغة او شكل معين من الماركسية قد أشرف على الانتهاء، وهو صيغة الطبقة العاملة الصناعية والثورة البروليتارية.
لقد اقترن تعريف الماركسية منذ البداية بثورة الطبقة العاملة وحددت مشروعها الثوري بكونها ثورة الطبقة العاملة. وفي المستقبل على الماركسية ان تبتعد عن مفهوم البروليتاريا التي ستحتفظ لنفسها بصلاحية وحصرية مهام الثورة وبناء الاشتراكية، لأنه مع توسع التقنيات الحديثة تتقلص البروليتاريا الصناعية وما يرتبط بها من مهام الثورة وبناء الاشتراكية. ومع انتشار التكنولوجيا واتساع قاعدتها تظهر عوامل وعناصر جديدة معاصرة كأدوات للتغيير الاجتماعي.
وفي الجانب السلبي أدى انهيار الاتحاد السوفييتي الى احتفال ايديولوجي من قبل الرأسمالية ولدى (اقتصاد السوق) باعتبارها تمثل أفضل النظم الاقتصادية، ونتج عن التفكيك الفعلي لدول المجتمعات الشيوعية في الإمبراطورية السوفيتية السابقة وإعادتها لاقتصاد السوق، وبذلك يكون قد اختفى من الساحة العالمية الوزن السياسي والاقتصادي المقابل للرأسمالية او ما كان يشكل حينها النظام العالمي البديل واعلان انتصار الاقتصاد السياسي للرأسمالية، غير ان زوال ذلك النظام الاجتماعي جاء عن طريق ارتكاب تشويه أساسي للنظرية الماركسية، لكنه فتح الطريق امام نمط جديد من الاشتراكية قادرة على إشاعة الحرية والديمقراطية والسعادة الانسانية، وفي هذا السياق، سيكون من المبكر ان يجري طرح مفهوم الاشتراكية جانبا في الوقت الذي تطمح فيه المجتمعات الرأسمالية الى مثل هذا التحول الأساسي، بل من الضروري استخدام مفهوم الاشتراكية كدليل عملي لشرح وتوضيح السياسات داخل المجتمعات الديمقراطية الرأسمالية وكذلك من اجل طرح المطالب المحددة السياسية، مثل: العمالة الكاملة، الضمان الصحي، تقصير فترة العمل الأسبوعية، تعزيز الديمقراطية في أماكن العمل وفي الاعلام وبقية الميادين الاجتماعية. ان الأفكار الاشتراكية قادرة على التعزيز الراديكالي للتوجه، وعلى التحول الديمقراطي الحقيقي الذي يتيح لكل الطبقات الاجتماعية من المشاركة في الإدارة الذاتية من دون منح امتيازات خاصة للطبقة العاملة او لأي طبقة أخرى كم حصل في إطار الماركسية الكلاسيكية. كما يمكن توظيف المفاهيم الماركسية لشرح المصاعب الملازمة للرأسمالية عندما ترفع عنها القيود والضوابط القانونية كما تفعل الإدارة الأمريكية برئاسة (ترامب) اليوم وسيتبين مدى ضرورة القيود والضوابط القانونية والاجتماعية المشروعة لكبح جماح الرأسمالية الطامحة للسيطرة والتحكم في كل جوانب الاقتصاد والحياة الاجتماعية. خلال هذه المرحلة حيث يجري تسويق فكرة ان “الأسواق الحرة” هي مصدر كل الرفاهية الاقتصادية والحرية الاجتماعية معاً فان النقد الماركسي لرأسمالية السوق سيظهر مدى محدودية تلك المفاهيم عن الرخاء والحرية التي توفرها حرية السوق، وان الرأسمالية التي أفرزت آلاماً وعذابا لا حدود لهما لكل المجتمع البشري، ويستدعي ذلك النقد الماركسي ان يؤكد على محدودية اقتصاد رأسمالية السوق مما يتطلب المزيد من القيود والقواعد القانونية والاجرائية على نشاط تلك السوق وضرورة اخضاعها لتنظيم اجتماعي أفضل. ان التأكيد على أولوية تراكم رأس المال ومن ثم تلبية احتياجات الناس يأتي في مقدمة المحدودية الكامنة في بنية الرأسمالية. والطرح الراديكالي في هذه الحالة يقتضي الهجوم على هذا الضعف الكامن الذي يتعارض مع التغيير الاجتماعي، بالإضافة الى ان محاربة العوائق الكامنة في بنية الرأسمالية والتي تقف في وجه التغيير ستلاقي ايضا تأييدا وترحيبا شعبيا واسعا.
المهم في رؤية الماركسية نحو قضية التحرر هو ضرورة استمرارها واندفاعها لإحياء النضال من اجل مجتمع أكثر حرية وعدالة وديمقراطية. ان المطلب الماركسي بتخفيض عدد ساعات العمل الأسبوعية وتمديد فترة الراحة يتلاءم تماما مع هذه المرحلة حيث يتيح التقدم التكنولوجي تحقيقها بسهولة رغم ان الرأسمالية تشدد فقط على زيادة ساعات العمل. ان رؤية ماركس حول الحرية وتطور الفرد داخل المجتمع يتلاءم اليوم مع مستوى التقدم التكنولوجي وبإمكانه ان يوفر اليوم موقفا نقديا حول استمرار الاضطهاد الاجتماعي، والتأكيد ايضا على توسيع وتعميق الديمقراطية ضمن الحياة الاجتماعية.
ان الرؤية الماركسية للديمقراطية والحرية ستتميز بأفضليتها على الرؤية الليبرالية لكونها أكثر عمقا وشمولية في فهم الديمقراطية التي تحيط بمجمل الحياة الاجتماعية. ان ممارسة السيادة الشعبية لدى (كومونة باريس) والتي احتفى بها كل من ماركس وانجلز باعتبارها نموذجا يحتذى به في موضوع الإدارة الذاتية للمجتمع تتضمن سيادة شعبية حقيقية على المستويين الاجتماعي والسياسي بالإضافة الى الديمقراطية الاقتصادية. ان المجتمعات الاشتراكية الراهنة عجزت عن إقامة ديمقراطيات اجتماعية ولكنها اوجدت على الأقل حداً أدني من الديمقراطية في مكان العمل. بينما حتى في الدول الرأسمالية الليبرالية يجري فرض القيود على الديمقراطية، كالقيود الملزمة في عملية التصويت والانتخابات الدورية.
ان مفهوم الليبرالية الكلاسيكية حول الديمقراطية التمثيلية هو مساواة الديمقراطية بعملية التصويت وما تؤدي اليه من محدودية في مفهوم الديمقراطية، ديمقراطية ضعيفة تتيح للقوى المحافظة إمكانية التلاعب بها عن طريق استخدام ثرواتهم ونفوذهم للسيطرة على العملية الانتخابية. وكذلك الأمر بالنسبة للمفهوم الكلاسيكي الليبرالي عن الحرية حيث يجري بتره واختزاله وجعله مجرد حرية فردية يمارس الشخص خياراته الذاتية الفردية عند قيامه بالتسوق وعند الاستعراضات الشعبية في المنافسات الانتخابية. ويبرز هنا السؤال الهام عما إذا كان اغلبية الناس احرار حقا في المجتمعات الرأسمالية، الناس العاجزون عن الحصول على وضع اقتصادي عادل للعيش حياة حرة. اذ كيف يمكن الحديث عن “حرية” شخص ما وهو يعاني دوما من قلق دائم من احتمال البطالة المسلطة على رقبته والتشرد او العيش بلا مأوى، من فقدان العناية الصحية، من اضرار البيئة، ومن الانهيار الاقتصادي.
ومع ذلك لابد من الاعتراف ان “المجتمعات الشيوعية التي وجدت حتى الآن” لم تنجز او تجسد التقاليد البرجوازية حول الحقوق، والحريات الفردية والديمقراطية كما عبر عنها بعض كلاسيكيو الماركسية.