منذ نحو عامين كنت قد عزمت على ترجمة مؤلف فيورباخ “جوهر المسيحية” فاقتنيت النسخة الورقية الإنجليزية بالإضافة الى النسخة الألكترونية وبدأت بالعملية الشاقة، البطيئة لمرافقة أفكار فيورباخ وهو يطرحها كانسان يهمه مصيره ومصير العالم، ثم علمت منذ أشهر انه يوجد ترجمة جديدة ناجزة ومتوفرة، وطبعا كان اول ما اردت القيام به هو الحصول على نسخة من هذا العمل الهام فبحثت عن القيمين عليه وعرفت ان المترجم شخص يدعى “جورج برشين” وان من قام بالمهمة المقدسة الخاصة ب ” التقديم والتعليق والتدقيق. الخ” هو المدعو ” الدكتور نبيل فياض ” والذي ورد اسمه على صفحة الغلاف بخط عريض يفوق عرض اسم المؤلف والمترجم وطولهما معا.
لابد اولا من مقدمة بسيطة نتعرف فيها على مصطلح او مفهوم A PRIORI في الفلسفة والفكر، انه تعبير لاتيني الأصل ويعني “السابق” او “ما قبل” او “قَبْلي- بفتح القاف وتسكين الباء” للدلالة على ما هو بديهي في نظرية المعرفة، اي المعرفة المستقلة والسابقة عن التجربة حيث لا يشترط في الانسان العارف اية تجربة من اجل معرفة الحقيقة التي تعكس علاقة الانسان العارف بموضوع معرفته، لكونها بديهية، وبالتالي معرفتها امر بديهي، كأن تقول (اذا عاش أبو نواس في العراق مدة أربعة أيام على الأقل فهذا يعني انه عاش فيها اكثر من ثلاثة أيام) للدلالة على صحة هذا الاستنتاج الذهني الذي لا يشترط تجربة سابقة. ولقد أورد الفيلسوف الألماني (ايمانويل كانط) هذا المصطلح في سياق عرضه لنظرية المعرفة ضمن كتابه “نقد العقل المحض” أحد اهم الأعمال تأثيرا في تاريخ الفلسفة الحديثة. حيث يعتبر هذا المصطلح ركنا أساسيا في نظرية المعرفة، كما ويعتبر مثل هذا الادراك المسبق متعاليا حيث انه لا ينشأ بسبب التجربة وهو لا يستند الى أي شكل من أشكال الخبرة الممكنة بينما الادراك اللاحق (A Posteriori) او الادراك (البَعْدي- ما بعد التجربة) يتعلق بالمعرفة التي تعتمد على الخبرة والاستدلال التجريبي. هناك اذن، نوعان من المعرفة: المعرفة البديهية، A PRIORI، والمعرفة الاستدلالية، A Posteriori. لنعود الى كتاب الثنائي (جورج برشين ونبيل فياض) والذي ما ان تصفحت أوراقه الأولى حتى وصلت الى هذه العبارة: “أولا بطريقة الاستدلال (الابريورية) a priori “، تمعنت فيها لأتيقن من ان :(الابريورية) التي لم اسمع بها، هي ترجمة كلمة (a priori)، ثم تكررت بنفس هذه الصيغة كمقابل لغوي لها في أماكن أخرى لاحقة. لقد دفعني هذا اللغو والاستخفاف بالناس الى تقصي المزيد من المعلومات عن هذا الثنائي المزعج والذي يسعى للتطفل على قضايا فكرية يفتقران كلاهما الى الحد الأدنى منها.
أدرك تماما ان الثنائي هما نتاج بيئة سياسية طغى عليها التشبيح والتعفيش يرضي غرورهما ونرجسيتهما، لقد خلق الاستبداد بيئة سياسية واجتماعية مشوهة يتطفل فيها السياسي وصاحب الحظوة عند النظام على كل ما له علاقة بالثقافة وبالناس. بعد نصف قرن من طغيان نظام استبدادي تمارس فيه أجهزة الأمن والمخابرات مهامها للقضاء النهائي على حرية السياسة، وحرية التفكير باعتمادها السجون والمعتقلات والتعذيب والقتل لتحقيق ذلك، برزت معها ظاهرة ملازمة هي (التعفيش الثقافي).
بعد زحف موسوليني على روما (1922) وقبل صعود هتلر الى السلطة عام (1933) كتب الأديب الألماني (توماس مان) قصته القصيرة التحذيرية (ماريو والساحر).. حيث تلعب فيها النازية القادمة دور المنوم المغناطيسي الذي ينوم كل من في القاعة بواسطة إشارات مكررة وجمل تهويميه. ولكن سيدا من روما ينهض بوجهه: “ما كان باستطاعتك ان تنومهم لولا انهم أرادوا ذلك” وتقوم القصة على الصراع بين الشعوذة اللاعقلانية والوعي الإنساني الذي يرفض الرضوخ لسيطرة الساحر. في نهاية القصة يتعب الفتى المتنورمن عناده الذاتي فيسلم للسحر الذي غيب الجماعة. في الحياة ارادت النازية وأشباهها من سلطة البعث والقومي السوري ان تفعل ما فعله الساحر: تحاول تنويم مجنديها الذين ينقصهم التجانس بصوفية غامضة يشارك فيها الجميع، وتمهد القاعة لدخول الساحر (هتلر، موسوليني، أنطون سعادة، صدام حسين، حافظ الأسد وبقية اقرانهم الذين ينتشرون كالزوان في الشرق). ويتساءل (لوكاش) في كتابه (تحطيم العقل) كيف تقبل الألماني المتنور مفهوم “الإرادة الأسطورية” عند شوبنهاور، ونبؤات زرادشت والاساطير التاريخية في كتاب (شبنغلر) “سقوط الحضارة الغربية”؟ يبدو للوكاش ان تصديق ذلك، هو أصعب من قبول العامل الشاب والقليل الثقافة المرمي في الشارع عاطلا عن العمل خارج الأحزاب، بأن هتلر واشباهه سيحقق للشعب الاشتراكية وسيحيي الأمة الهائمة، مثلما جرى تلقين أعضاء الحزب القومي السوري الكليشيهات الجاهزة والصيغ القومية الجوفاء بترديد وتكرار عبارة “الحياة اوالبقاء للأمة” عند مقتل كل عضو من الحزب الذي يخوض حربه الى جانب ميليشيات النظام السوري، ويصبح التمسك بهذه الرمزية، والاستغراق فيها الى حد الثمالة، هي شكل ومضمون وهدف نشاط الأحزاب والأنظمة الفاشية، فهوية هتلر تختزلها تحيته الرمزية التي تتحول الى هدف ومضمون النشاط السياسي حين ترتفع الذراع المشدودة مع ترديد عبارة “هايل هتلر” كما لقنها الساحر لجمهور جرى تجريده من عملية التفكير. وهو نفس الدرس الذي حفظه حافظ الأسد عن ظهر قلب، مثلما فعل الساحر في قصة “توماس مان” حيث تمكن من السيطرة على كل أوجه الحياة بعد ان اندمجت اجهزته السياسية والإدارية والأمنية وتوحدت وظائفها في هدف وحيد هو تنويم الشعب لإخضاعه قسرا، وفي الحالة السورية جرى تلقين أطفالها وفتيانها وفتياتها شعارات الولاء ل “بابا حافظ” حينئذ، واليوم ل “بابا بشار”. وبعد ان يترسخ الاستبداد في الحياة السياسية لا بد من توفير أسباب العيش له، فتمتد أذرعه نحو الحياة الاجتماعية لدمجها بالحياة السياسية. وضمن شروط بلد مثل سوريا، ينتمي الى العالم الثالث او الرابع، وبجهود القيادة القطرية ومن ثم القومية، والتي تقطر منها الحكمة الأزلية يصبح الفساد أحد الأركان الأساسية للسلطة التي يختزلها شخص القائد، يندمج الفساد والسياسة ويصبحا شيئا واحدا هدفه تشويه المجتمع، وكلما امعن فساد السياسة في نشر الفساد الاجتماعي كلما ضعفت مقاومته وسهلت قيادته ليتحكم فيه “المنوم المغناطيسي” ويلاحظ المراقب للشأن السوري انتشار مفردة “هو شخص مثقف… انه مثقف ” اذ بعد تهميش الفئة المتعلمة والمتنورة التي بقيت خارج الأطر الرسمية المحنّطة، وخارج المنظمات المهنية كالنقابات والاتحادات بعد ان صارت هذه أدوات للسلطة السياسية وامتداد لها، لذا كان لابد من خلق كيان يلائم المركزية الفظة، كيان يتناسب مع المرحلة الاستبدادية التي سلبت كل شيء وصار من الضروري ادراج تلك الفئة داخل كيان وهمي يمنحها قيمة واعتبارا اجتماعيا، انها فئة “المثقف” التي يكثر استخدامها في سوريا دون أي سبب يتعلق بالثقافة او بمميزات الفرد الثقافية بل تعتبر منحة توصيفيه من قبل السلطة الرسمية تخدم اهدافها السياسية، أي هي بمثابة رتبة من رتب النظام لهذه الفئة المهمشة لكي تشعر بوجودها على قيد الحياة وتنعم بالثقافة اسوة بطلاب العلم والمعرفة في جامعات (كامبردج، واوكسفورد، والسوربون وغيرها من المؤسسات العلمية العالمية) التي لن تجد فيها أحدا يستخدم لقب او صفة “مثقف”، لماذا ؟ لأن الاستبداد وحده ينتج المثقف السلبي أي مجرد اللقب الذي يصنفه. ومع الحديث عن الثقافة والمثقفين في سوريا وخاصة خلال هذه المرحلة المأساوية من حياة الشعب السوري تنتشر مفردات تعكس جوهر الواقع الاقتصادي والاجتماعي وهي “التشبيح” و “التعفيش” ولقد وجدت ان نشاطاتها تجاوزت عملياتها التقليدية من نهب وسلب واختطاف فامتد نحو التشبيح والتعفيش الثقافي لتثبت انه ليس بالخبز وحده تحيا الفاشية كما فعل وبجدارة كاتب مقدمة “جوهر المسيحية”(نبيل فياض) وهو شبيح يفيض بالعلمانية ويؤمن فقط بآلهة علمانية تشبهه، ويؤسس ،برضى الهته ورضا الحاكم، حزب “عدل” في بلد لا تتنفس فيه نملة الا بموافقة السلطة وتحت مراقبة الأجهزة الأمنية، ونبيل يتميز بالإضافة الى علمانيته عشقه لكل ما هو اجنبي ففي صورة له على الفيسبوك نراه يزهو بفخر امام محفل لطائفة “المورمون” يباركه “جوزف سميث” الذي ابتدع جماعة “المورمون ” بعد ادّعائه ان المسيح ولد في أمريكا فصار له اتباع تمكن من استغلالهم وليؤسس لنفسه بنكا خاصا، وكان، ومنذ عام 1831 يدعو لتعدد الزوجات، وفي عام 1843 قبلت زوجته (ايما) بمشركة أربعة زوجات اضافيات له للعيش في منزلهم. ومن الآلهة الأخرى التي يقدسها العلماني نبيل فياض تبرز ملامح (بشار الأسد) حيث يقول في وصفه له:
بشّار الأسد.. الضمير الأخير لأمة تحاول استرداد عظمتها!
أيها الرئيس الجميل!
أيها الرجل الخارج للتو من قلب الحقيقة!
أيها الأمل الذي نعلّق عليه آخر لحظات فرحنا!
ان نبيل فياض يعشق ممارسة العبادة حتى وان خلت السماء من الآلهة، حينها سيبحث فياض مضطرا عن (آلهة علمانية) تناسبه، وهو يجمع بجدارة بين العلمانية واللاعقلانية، اذ ليس من الضروري ان تكون علمانيا وان تكون شخصا عاقلا في نفس الوقت. ولان فياض شخص من سقط المتاع فلا يستحق أكثر من وصف أطلقه عليه (سعيد النظلة) المهتم بتاريخ حمص الاجتماعي: -“(نبيل فياض) الذي يعتبر أحد الأعمدة الفكرية لـ “سوريا الأسد” ينتسب لعائلة فياض وهي أسرة كريمة من القريتين في بادية حمص. حالياً معظم أفراد هذه الأسرة تبرؤوا منه وتمكن من سجن بعضهم بعلاقاته الأمنية ومنهم ابن أخيه الذي اتهمه بمحاولة اغتياله”.
ويضيف النظلة: “أن فياض منبوذ من وسطه العائلي ولا أحد يتكلم معه باستثناء أمه وخالته أما الباقون فتبرؤوا منه وخاصة أخوته وأبناءهم”.
وحول جوانب من خفايا “نبيل فياض” وشخصيته غير المتوازنة يقول النظلة:
“كانت دراسة نبيل فياض ما بين حمص ودمشق وكان من الشائع في حمص أنه ملحد ولم تكن هذه التهمة ذات أهمية وقتها.”
ويضيف النظلة: “أن فياض فشل في دراسة الصيدلة بجامعة دمشق وذهب لمدرسة مناجم الفوسفات قرب تدمر ليدرّس ساعات إضافية قبل أن تضطر الإدارة لفصله لأسباب أخلاقية ومنها الشذوذ الجنسي.
وغاب فترة ثم ظهر في الكسليك بلبنان وقد تنصّر ودرس اللاهوت لمدة سنة قبل أن يعتقله حاجز للقوات اللبنانية بسبب هويته السورية وكادوا أن يعدموه لولا تدخل رجل دين مسيحي فغادر لبنان.
وذهب إلى حلب حيث كان فيها كنيس يهودي في أخريات أيامه فقابل الحاخام وأعلمه برغبته بالتهود. فافهمه أن اليهودي من تكون أمه يهودية فقط. وكل ذلك كان هو يقوله ويكرر الحديث عنه في عدة جلسات بحمص.”
ويتابع النظلة:” بقي فياض ملحداً ولكن تحول إلى حاقد على الإسلام. عاش في دمشق يدعي الثقافة ويتفاخر بعدائه للإسلام. ثم بدون أن يعلن صراحة تحول إلى متشيّع وأصدر كتابه: (يوم انحدر الجمل من السقيفة) الذي ينقض فيه شرعية الخلفاء. واعترف بلسانه أن الكتاب منع لفترة طويلة، لكنه تدبر الأمر. ومع الزمن توضح الأمر فقد تبناه ضابط مخابرات وتتابعت كتبه المعروفة ضد الإسلام. مكاسبه كانت كثيرة قبل “يوضع على الرف” لانتهاء دوره. وبعد قيام الثورة كان ممن وجدهم النظام في دفاتره العتيقة فاستخدمه ولا زال”.
وعن أسباب حقده على مدينة حمص وأهلها يقول النظلة:
“أنا أعرفه من المرحلة الإعدادية فقد درست معه، لقد كان مشوشاً دينيا ثم في المرحلة الثانوية تحول لملحد يجاهر بأفكاره، لكن الحقد -ربما ولا أجزم بذلك– على كل من عرفه من أهل حمص سواء في الحي الذي سكنه (مساكن المعلمين) أو في المدرسة. كان بسبب شكله القميء ثم بسبب أفكاره الغريبة. وكان معظم الشباب يقولون إن شعورهم نحوه هو القرف. وأعتقد أن هذه النظرة تجاهه ولّدت ردة فعل منه تجاه كل ما يمت لمدينة حمص بصلة.”
كلمة أخيرة الى شبه المترجم حامل لواء التعفيش الثقافي والفكري الأستاذ جورج برشين، الترجمة ليست مسألة لغوية فحسب، ليست مجرد عملية تقنية تقتصر على وجود ملكات لغوية للمترجم بل تتطلب منه وجود ملكات فكرية ووعي نقدي، أي وعي بإمكانيته ممارسة الحرية… وممارسة الحرية هي مصيبة المصائب تحت نظام الأسد، حتى الترجمة تستدعي قليلا من التفكير يا أستاذ جورج.