اجهزة الأمن الروسية تعرف تماما ما الذي تفعله روسيا اليوم

كان لدى (فيليكس دزيرزينسكي) في نوفمبر 1921 خطة يحرص عليها، وهو البولندي المولد الذي صار رئيس الشرطة السرية للاتحاد السوفييتي المعروف باسم “تشيكا”. وقبل ذلك بأربع سنوات، قام البلاشفة بطرد أسرة رومانوف وأسسوا أول حكومة شيوعية في العالم. وسعت وكالات الاستخبارات في أوروبا الغربية، يدفعها الخوف من الشيوعية، للاختراق والتسلل إلى الاتحاد السوفييتي، في حين هرب الروس البيض أصحاب النفوذ إلى العواصم الأوروبية مثل باريس وبرلين، حيث كانوا يأملون في التخطيط لعودة القيصر.

تضمنت خطة دزيرجينسكي سجينًا، هو ألكسندر ياكوشيف، الموجود في سجن (لوبيانكا) الشهير في وسط موسكو. وبالرغم من أن ياكوشيف كان يعمل في الحكومة السوفيتية، فقد اكتشفت (تشيكا) ولاءه السري للقيصر، فألقت القبض عليه وألقته في سجن لوبيانكا، لينضم الى قافلة أعداء الشعب التي تنتظر تنفيذ حكم الإعدام.

لقد أراد دزيرجينسكي اللجوء الى وسيلة غير مباشرة لتحييد أعداء الاتحاد السوفيتي، وخداعهم وإرباكهم بشكل كامل لدرجة فقدانهم كل امكانية للتوجه الأخلاقي والسياسي.

بدلاً من إعدام ياكوشيف، أعطى دزيرجينسكي سجينه ما أراد، وان كان ذلك كغطاء فقط: جعل ياكوشيف رئيسًا لمنظمة قيصرية تدعى (الثقة) وأرسله إلى أوروبا كمبعوث للمجموعة. قام ياكوشيف بنشر رسالة مفادها أن العملاء المناهضين للبلاشفة “اخترقوا المستويات العليا للجيش، والأجهزة الأمنية، وحتى الحكومة، وسوف يستولون في الوقت المناسب على السلطة ويستعيدون النظام الملكي”، كما وصفها (أناتولي جوليتس)، أحد المنشقين عن جهاز المخابرات (كي. جي. بي) في دراسته التاريخية عام 1984 حول أجهزة الأمن السوفيتية “الأكاذيب الجديدة القديمة”.

ورغم عدم معرفة سوى القليلين بها اليوم، فأن منظمة (الثقة) هي “السلف” لوحدات العمليات الروسية في الولايات المتحدة خلال انتخابات 2016، وهي تقدم درسا في كيفية استخدام روسيا للمعلومات المضللة لتشويه سمعة الأعداء المحليين والأجانب، مثل اليرقانات الروسية المعشعشة والمغردة على وسائل التواصل الاجتماعي حول فقرات (الدستور الأمريكي) أو حول الصفحات المزيفة لحركة “حياة السود لها أهمية أيضا Black Lives Matter ” والتي أطلقتها وكالة أبحاث الإنترنت الروسية في سانت بطرسبيرج، لقد كان تشكيل “الثقة” كإطار لنشاط يقتات على السذاجة الغربية.

يقول (جون سايفر)، وهو من قدامى العاملين في وكالة الاستخبارات المركزية (28 عاما)، وعمل في الخدمة السرية للوكالة وادار عمليات خارج موسكو، إن الضباط المكلفين بالنشاط في روسيا كان عليهم دراسة تجربة كيف تشكلت هيئة (الثقة) التي وصفها التاريخ السري لوكالة المخابرات المركزية بأنها استعراض ل ” استفزاز الاتحاد السوفييتي “. وبالنسبة إلى (سايفر)، فإن منظمة (الثقة) هو مثال نموذجي لشن حملات فعالة كتلك التي شنها الكرملين خلال الانتخابات الرئاسية لعام 2016.

كتب المؤرخ المختص بالاستخبارات السوفييتية (كريستوفر أندرو) في كتابه “السيف والدرع”، أن نشاط المنظمات مثل “(الثقة) او (ترست)” وغيرها، “أصبحت ناجحة بشكل متزايد في اختراق القوى الإمبريالية الرئيسية في أوروبا وذلك بسبب “الهوس المتشدد بالأمن في موسكو، بينما بقي الكثير من الأمن الغربي ضعيفاً”.

أراد الروس البيض الاعتقاد بأن انهيار الاتحاد السوفييتي كان في متناول اليد، مثلما يريد البعض اليوم الاعتقاد بأن دونالد ترامب ينقذ الحضارة الغربية من جحافل المهاجرين واللاجئين.

يقول (جون ر. شيندلر)، وهو محلل سابق في وكالة الأمن القومي ومكافحة التجسس ، ويدير الآن لجنة  (الاكس اكس)، وهو موقع استخباراتي على شبكة الإنترنت ، إن التاريخ الذي وضعته وكالة الاستخبارات الأمريكية  (CIA) حول تنظيم (الثقة – TRUST ) قد تم التكليف بوضعه في بداية الخمسينيات من قبل (جيمس جيسوس أنغليتون) ، رئيس وحدة محاربة الاستخبارات، ونائبه، (رايموند ج. روكا). ووفقًا لما ذكره (شندلر)، قام تنظيم ( الثقة)  بتعليم العملاء الأمريكيين حول كيفية الاعتماد السوفييتي على (كومبيناتسيا): حملات متعددة الجوانب تنطوي على حرفة تجسس تقليدية ، ومعلومات مضللة وزراعة أصوات صديقة في منطقة الخصوم، أحيانًا من خلال اللجوء الى مساومات، أو أحيانًا من خلال تفاهمات بسيط عن طريق المال.

يقول شندلر: “إن الغربيين ليسوا مهيئين للشعور بالريبة والشك مثل الروس، ومن السهل اسقاطهم في الفخ”

وهذا ما فعله ياكوشيف في العشرينيات. فوفقًا للمؤرخ (أندرو)، فاز (ياكوشيف) “بالثقة خلال زيارات إلى كل من الدوق الأكبر نيكولاي نيكولايفيتش ، ابن عم الراحل نيكاراس الثاني ، والجنرال ألكسندر كوتيبوف من نقابة اتحاد الخدمات المشتركة [البيضاء]”. كان لدى البعض شكوكهم، ولكن في نهاية المطاف اختفت تلك الشكوك، وازداد نفوذ تنظيم (الثقة)، التي اثبتت انها وسيلة فعالة لتحديد الشخصيات الروسية المعادية للسوفييت في جميع أنحاء أوروبا ، بما في ذلك (بوريس سافينكوف)، وهو زعيم لجمعية الدفاع عن الوطن والحرية الذي كان مقره في وارسو، جرى اغراؤه للانتقال الى موسكو تحت ذريعة مساعدة مجموعة معادية للسوفييت ، حيث تم القبض عليه في صيف عام 1924 وحكم عليه بالإعدام ، وهو مصير تجنبه بالقفز من نافذة من الطابق الرابع في مبنى KGB لوبيانكا.

فيما وصفه المؤرخ المختص بقضايا التجسس جيفري تي. ريشيلسون، بالعملية “الأكثر إثارة” التي قامت بها منظمة”الثقة- ترست”، اذ نجحت في خداع (سيدني جورج رايلي)، الأسطورة البريطانية “ايس اوف سبايس”. وحرضته على عبور الحدود الفنلندية ودخول الاتحاد السوفيتي، ثم التوجه الى لينينغراد. هناك، استقبله أعضاء آخرون في منظمة “الثقة- TRUST، وجميعهم كانوا في الواقع أعضاء في (تشيكا). أخذوا رايلي إلى الحجز، واستجوبوه ثم أطلقوا النار عليه فيما يعرف اليوم بمتنزه سوكولنيكي، خارج موسكو، في عام 1925. وقد يكون أمر الاغتيال قد أعطاه جوزيف ستالين نفسه.

تم الكشف عن منظمة “الثقة”في عام 1927 ، وتحولت تشيكا إلى ما أصبح يعرف باسم لجنة أمن الدولة ، أو كي جي بي ، بحلول عام 1954. وكشف المؤرخون في التسعينات عن المدى الذي لم يكن فيه الكي جي بي ووكالاته السابقة سوى أكثر من قوات الصدمة القاتلة في الكرملين المصاب بجنون العظمة. على الرغم من ذلك ، شهدت روسيا الحديثة استرجاع شعور دافئ لأزلام لينين وستالين الذين كانوا مسؤولين عن موت الملايين.

على سبيل المثال ، اليوم في وسط مدينة سان بطرسبرج ، يوجد محكمة مقاطعة دزيرجينسكي. كيف أمكن إعادة تأهيل الجواسيس والقتلة في القرن العشرين – والأسوأ من ذلك، أن أساليبهم تم نشرها مرة أخرى – من قبل الكرملين، لها علاقة بمبنى آخر في وسط سانت بطرسبورغ، على بعد بضع بنايات من المحكمة سمي أيضا: دزيرجينسكي.

في عام 1960 ، بدأ صبي كان قد ولد قبل ثماني سنوات بالالتحاق بالمدرسة رقم 193 ، التي تقع بالقرب من باسكوف لين، حيث بدأ بممارسة الجودو في سن 13 عامًا. وواصل دراسته لفنون القتال في المدرسة الثانوية، حيث بدأ أيضًا في تعلم اللغة الألمانية. الشاب، (فلاديمير بوتين)، درس القانون في جامعة لينينغراد الحكومية وانضم بعد ذلك إلى KGB.

عندما أصبح بوتين ضابط مخابرات عام 1975، كان يديره (يوري أندروبوف)، الذي ساعد في قمع الانتفاضات الشعبية والمناهضة للسوفييت في بودابست وبراغ. كما أنه استخدم المعلومات المضللة لإضعاف أعداء السوفييت. في عام 2013، كشف أحد المنشقين عن الأجهزة الأمنية الرومانية أن (أندروبوف) حاول إثارة المشاعر المعادية لأمريكا في الشرق الأوسط. “آلية أندروبوف التضليلية كانت تعمل على مدار الساعة لإقناع العالم الإسلامي بأن إسرائيل والولايات المتحدة تنويان تحويل بقية العالم إلى إقطاعية صهيونية”، بحسب الجاسوس السابق، في كتاب له بعنوان “التضليل”.

في عام 1982، أصبح أندروبوف زعيم الاتحاد السوفييتي، مما أدى إلى ما وصفته صحيفة واشنطن بوست فيما بعد بعصر “الستالينية المتطورة”. وبعد عدة أشهر من ترقيته إلى الأمانة العامة، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن جواسيس كي جي بي كانوا يحاولون “للتأثير أو لشق طريقهم ضمن مجموعات تحاول منع نشر صواريخ متوسطة المدى جديدة في أوروبا الغربية” من خلال تمويه أنفسهم كناشطين في مجال نزع السلاح. وهذا مشابه بشكل ملحوظ للتكتيكات التي استخدمتها روسيا في عام 2016، عندما ركزت على الاحتجاجات التي كانت تقوم بها حركة “حياة السود مهمة أيضا – Black Lives Matter ” كوسيلة لتوسيع الانقسامات في المجتمع الأمريكي.

لا شك في أن روسيا ستكرر المحاولة مرة أخرى. لقد كشفت شركة مايكروسوفت مؤخراً عن أن ثلاثاً من الحملات السياسية لعام 2018 قد استهدفها الروس، بما في ذلك السناتور الأمريكي (كلير مكاسكيل)، وهي ديمقراطية من ميزوري. “لا أعتقد أنهم سيعودون”، يقول رئيس مركز وكالة الاستخبارات الأمريكية السابق دانييل هوفمان. “لانهم موجودون هنا، فهم لم يغادروا قط “.

لم يخفِ او يتستر بوتين على تقاربه مع أجهزة الأمن السوفيتية. في عام 1999، عندما كان رئيس الوزراء، أمر ضابط المخابرات السابق بإقامة لوحة تذكارية لذكرى أندروبوف في سجن لوبيانكا. اذ تمت إزالة اللوحة في عام 1991، عندما كان الإصلاحيون الروس قد صمموا على التخلص من إرث الشيوعية. وفي الآونة الأخيرة، في عام 2014، أصدر بوتين مرسومًا يقضي بإعادة تسمية وحدة أمنية داخلية نخبوية باسم “فرقة دزيرجينسكي”

قد تكون روسيا قوة عظمى تتلاشى، لكنها لا تزال مصممة على إضعاف أكبر منافس لها، باللجوء إلى ماضٍ من الأمجاد  النائية الشرقية الشاسعة، عن تمثال جديد ل (دزيرجينسكي)

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.